ثلج في الطريق
كنّا ببوصلة الغريزة نحزر ونتنبأ أن في أثداء السماء ثلجاً، مثل قطن نفشته أمي للتو في باحة الدار. فعندما يكون قرص الشمس لامعاً وحامياً يحرق عين العصفور، في يوم ذي برد وسكون، كنا نتفاءل ونسمي هذه الحالة (الشمس المطرودة)، وكنا نتوقع أن الأمر لا بدّ وسيسفر عن وجبة ثلج طازجة، بعد يوم أو يومين، وأن السماء تخبّئ لنا هدية حان حينها.
شتاءاتنا تظلُّ على كرسي مدولب أو عكاكيز، ما لم يأت الثلج جنرالاً منتصراً فارشاً بساطه الأبيض، فوق عروس روابينا، فإذا هلَّ حلمنا الكبير، دبّ الفرح في العروق دبيب النمل؛ فنطير كفراشة نار لعوب؛ نبحث عن غيمة أخرى، كانت تشبه حوتاً سميناً، نهزّها هزّ الجائع لنخلة الرطب، وننتظر أن يتساقط: ثلج، ثلج، ثلج.
في الصباح ننسل من دفء فراشنا مفعمين بأمل يوم عطلة. ونهرع للشبابيك الموصدة، نفتحها قدر إصبعين: ياااااه، شاب الشجر، يا الله، ما أجملنا مع شيب الشجر، فنسرع إلى جدنا المكتنز بفروته لصق المدفأة، نشكو إليه شيخوخة الشجر الطارئة، فيحزن قليلاً، أو يتحازن، إذ وصل الشجر سريعاً إلى أرذل العمر!، ثم يقول كعاشق: إلا الشجر، فشيبهُ (الشجر) أول الخير، وباكورة العمر.
جدي كان يدّعي أن الثلج ملح الأرض، وهل تطيب الدنيا بلا ملح؟!، فهو يطهرها من أمراضها، وحشراتها الضّارة، لكننا وعندما كنّا نتذوق آذان القطط الهاطلة من سماء مضببة وغائمة، كان طعمها يبدو حلواً، لكننا نخشى أن نُفصح عن أمرنا؛ بأن الثلج سكر الأرض وليس ملحها، كي لا نواجه الجد بالحقيقة، فيحرمنا من خباياه اللذيذة من زبيب وخبيصة.
في حضرة الثلج، تشتعل المعارك نصف البرئية بيننا، فنقفز فوق سواتر الخجل، ونلعب مع البنات بجرأة ونرشقهن من فوق أسطح البيوت، بقنابل ثلجية مرصوصة حد الجفاف. ووحدها البنت التي لم تقو على خجلها، لاذت في الشباك النصف مفتوح، وراحت تتلمظ على كرة ثلجٍ، من ولدٍ عشَّش في البال، منذ شتاء فات.
مرحى لبوصلتنا الشفيفة، إذ ترصد شمساً طردها البرد، وكشفت ثلجاً آتياً في الطريق، ومرحى لمعاركنا التي ما زالت تشتعل في صحن البال، عن ولد لم يكبر بعد، ولد زرع ذات شتاء في قارعة الأحلام، وظل ينفخ دفء فمه في يديه، وينقّل كرة الثلج من كف إلى كف. منتظراً بفارغ الحب، أن تقذفه بنت الشباك بقنبلة ثلج مدججة بالقبلات تحييه. عن ولد ما زال يتوهج عشقاً، كلما قالوا ثلجٌ في الطريق.
الدستور 2018-01-25