مجتمعنا بين خيارين
يقدم لنا القرآن الكريم “بانوراما” من الصور والنماذج والقصص للافراد والمجتمعات على حد سواء، فثمة صورة اولية تصلنا من الحوار الذي جرى بين الله تعالى وملائكته حول طبيعة “الانسان” هذا الخليفة الذي اراد الله ان يخلقه لعمارة ارضه، قالت الملائكة “اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء” فكان الرد الإلهي “اني اعلم ما لا تعلمون”، وثمة صورة اخرى في قصة قابيل وهابيل، وفي قصة يوسف واخوانه، وفي قصة اقوام الانبياء موسى وعيسى وشعيب وابراهيم.. الخ، وهي كلها تعكس شخصية الإنسان - في المجالين الفردي والعمومي - وما تضمنه من سمات وما يطرأ عليها من احوال وما تعانيه من اضطرابات.
لا تختلف - اذن - الشخصية الإنسانية في مستواها الفردي عن الشخصية الانسانية في مستواها العمومي، بل إنهما متلازمتان تماما، فالعمومي هنا هو حصيلة العلاقات والميولات والاستعدادات الفردية، وبالتالي فإن صورة المجتمع هي انعكاس لطبيعة هذه العلاقات المنتجة اصلا من ظروفها وبيئاتها المختلفة، سواء أكانت حضارية او سياسية او اجتماعية او ثقافية او فكرية.
في هذا المجال، يقدم لنا القرآن الكريم صورتين للمجتمع: صورة يبدو فيها مضطرباً متشاكساً تأخذه الاختلافات والصراعات الى المجهول وصورة اخرى يبدو فيها “متصالحاً” مع نفسه، يسوده الوئام والاستقرار، يقول تعالى “ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجل، هل يستويان مثلاً، سبحان الله بل أكثرهم لا يعلمون”، وقد وقفت كثيراً امام هذه الآية، واجتهدت في فهمها - على خلاف ما ذكر المفسرون - فوجدت انها تقدم لنا مثلا واقعيا عن “شخصية” مجتمعاتنا وعن خيارين اثنين لا يوجد سواهما: فإما ان نتصالح مع أنفسنا ونخرج من “ازدواجية” مواقفنا، وتنابزنا الاجتماعي والسياسي، وخلافاتنا غير المفهومة، فنكون بذلك “سلماً” لبعضنا، وسنداً لقضايانا وإما أن نقع في فك “التشاكس” والشراكة المغشوشة، فيصيبنا ما أصاب غيرنا من قلق وخوف ونهايات مجهولة - لا قدر الله -.
في صورة اخرى يقدمها لنا القرآن على سبيل التفصيل، ثمة رجل (انسان غير فاعل) عاجز عن فعل اي شيء، عبء على صاحبه وعلى المجتمع، لا يأت بخير، وثمة رجل آخر “فاعل حقيقي” يأمر بالعدل ويتجه نحو الصلاح والإصلاح، وهما يمثلان صورتين متناقضتين في المجتمع - أي مجتمع - وموجودتين ايضا، ويمكن ان نختار بينهما وان نقارن بينهما إذا ما قررنا “الاستواء” على هدف واحد، او مشروع واحد، او فكرة واحدة .
“وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء، وهو كل على مولاه، اينما يوجهه لا يأت بخير، هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم”.
في الآية الأولى، تبدو صورة المجتمع في مجاله العمومي واضحة بين خيارين: تشاكس أو وئام، تناقض او تعايش، حالة سليمة أو أخرة مزدحمة بالأمراض، وفي الآية الأخرى يبدو الفاعلون في المجتمع بين صورتين: إحداهما عاجزة لا تأتي بأي خير والأخرى فاعلة على الحقيقة، قائمة على العدل، مؤمنة بالإصلاح وقادرة عليه ايضاً.
أتمنى أن يكون في مجتمعنا “شركاء” غير متشاكسين، ورجال يؤمنون بالعدل ويأمرون به ايضا، ومواطنون “سلماً” لبعضهم على قلب واحد.. وهدف واحد.. وقيم واحدة.
الدستور 2018-01-26