ما في داخلك
من المفارقات الخفيفة أن أقلام الرصاص العادية التي بين أيادينا، لا يوجد فيها أدنى ذرة من مادة الرصاص الثقيلة. (الرصاص ربما يتواجد في حشوات البندقيات، ومخازن المسدسات، وعقول الطغاة، وأزلامهم وشبيحتهم). أما قلم الرصاص فهو خشب خفيف، محشو بعجينة الكربون (الفحم) أو الجرافيت.
ولأن الرصاص كان يستخدم في بعض أنواع الكتابات القديمة، فقد ظل الاسم عالقاً بهذا القلم البسيط. أما كلمة (PENCIL) فتعود في أصولها إلى اللغة اللاتينية، وتعني الأثر الصغير. فهل حقاً لا تترك أقلام الرصاص إلا أثراً صغيراً؟!.
ليس دائما. فقد تكلم صانع أقلام رصاص إلى واحد من أقلامه قائلاً: هناك أمور عليك أن تعرفها، قبل أن تذهب إلى هذا العالم الكبير، فأنت ستكون قادراً على عمل الكثير من الأشياء العظيمة التي ستتوارثها الأجيال. ولكنك ستتعرض لبري مؤلم موجع، بين فترة وأخرى، وهذا ضروري لجعلك قلماً أفضل، وسيكون لديك القدرة على تصحيح أي أخطاء، قد ترتكبها.
ثم أضاف هذا الصانع منبهاً: قبل كل شيء، تذكر أيها القلم، أن الجزء الأهم فيك، هو (ما في داخلك)، ولهذا عليك أن تستمر بالكتابة، وأن تترك خطّاً واضحاً وراءك، مهما كانت قساوة الموقف وصعوبته، أو خطورته الداهمة.
يتحول الكربون أو الفحم إلى مادة الألماس، إذا ما تعرض إلى ضغط شديد، وهو من أصلب المواد التي عرفتها البشرية، يقطع المعادن ويقصها ويهذب الصخور ويشذبها. بعكس قلم الرصاص العادي الذي يتكسر بسهولة، متحولاً إلى أشلاء، بأدنى عملية ضغط متاحة.
وهذا ليس مهماً أبداً، فالمهم في قلم الرصاص، ليس قوته الخارجية، ولا في اليد التي تمسك به، بل الأهم دائماً هو صاحب تلك اليد، الذي يبقي على ما بداخله نظيفاً عفيفاً صادقاً قوياً وجرئياً، كي يكتب أوجاع أمته الحقيقية، ويصدقها في كل أمورها، مهما كانت قسوة الظروف.
الضعوط الثقيلة، وسطوة الألماس، والذهب وبريقه، قد تجعل أقلاماً كثيرة تكتب ما يريده صاحب ذلك الألماس، والذهب، والمزايا. وهذه الأقلام البائسة، لا تترك أثراً لا كبيراً ولا صغيراً، في أيامنا وحياتنا، وإن سادت لبرهة. فهي إنما تمحى من وجدان العالم وذاكرته، بسرعة شهاب مرَّ في ليلة قمراء.
قلة من أصحاب الأقلام والمنابر سيتركون أثرهم في النفوس وفي الدنيا، حتى لو كتبوا بقلم خشبي زهيد الثمن، ما زال يسمى قلم رصاص. هؤلاء هم روح الأمة والناس ونبضهم، وملحهم، وروادهم الذين لا يكذبون أهلهم، ولا يمارون على جراحهم ولا يعتاشون بأوجاعهم.
الدستور 2018-01-30