في حلقات مفرغة
على مدار ثلاثة أيام متواصلة ناقش رسميون ومتخصصون السياسات العامة الأردنية، على صعيد التطورات والتحديات والتوصيات، التي تواجه الأردن في العام الحالي 2018، في محاولة لبناء أجندة منهجية من قبل مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية الذي نظّم هذا المؤتمر، تحت عنوان "تكريس سياسات الاعتماد على الذات".
الوقائع والتقرير والتوصيات ستصدر في تقرير مفصّل قريباً. لكن ضمن الملاحظات الواضحة، خلال جلسات المؤتمر ونقاشاته، نجد أنّ هنالك مسافة كبيرة بين الشعار الذي رفعته الحكومة (واتخذه المؤتمر عنواناً للنقاش والمساءلة) وواقع الحال في مختلف المجالات، بما في ذلك الخطوات المنهجية والجدولة الزمنية لتطبيق الخطتين الرئيستين لعمل الحكومة اليوم، خطة تحفيز النمو الاقتصادي، واستراتيجية تنمية الموارد البشرية.
لا نتوقع أن يكون تطبيق شعار "الاعتماد على الذات" بمجرد الضغط على "كبسة زر". لكن في المقابل من الضروري أن نجد خطة عمل حقيقية Plan of Action متكاملة بين مؤسسات الدولة لترجمة هذا العنوان في مختلف المجالات، وتحديد شروط ذلك مثل إصلاح القطاع العام، النهوض بالتعليم، وتطوير التعليم المهني، وتنمية الموارد البشرية وتأهيلها لسوق العمل، وجذب الاستثمار، ومواجهة الأزمة المالية ومعضلة البطالة، والتأكيد العملي على مفهوم سيادة القانون.
عندما تعاين تلك القطاعات المتعددة والمختلفة والمتنوعة، وتستمع لأهل الاختصاص والخبرة والنقاشات التي تخللت المؤتمر، فإنّك تخلص إلى نتيجتين رئيستين مهمّتين، تكشفان عن أمراض حقيقية في الإدارة العامة الأردنية،
النتيجة الأولى أنّ هنالك مشكلات متداخلة ومتشابكة، لكن عقلية مواجهتها من قبل الإدارة العامة تأتي مجزّأة، وكأنّ كل مؤسسة أو وزارة أو قطاع عالم قائم بذاته مستقل، فمن دون وجود عمل فريق متكامل من قبل الوزارات والمؤسسات لمواجهة هذه الأزمات، ومن دون تعريف المشكلة ومنهجية الحل، ووضع خطة زمنية ومؤشرات قياس، فسنبقى ندور في الحلقات المفرغة ذاتها، مثال ذلك: العقبات البيروقراطية في وجه الاستثمار، أو إعادة هيكلة سوق العمل وإحلال العمالة المحلية، وتأهيل الموارد البشرية، وتعزيز التعليم المهني والتقني، فهذه بحاجة إلى خطة عمل لدولة وليس وزارة واحدة.
المشكلة الثانية، وترتبط بالأولى، تتمثل برسالة الدولة السياسية والإعلامية (الاتصالية)، أو رؤية الدولة التي من المفترض أن تصل إلى الرأي العام الأردني بوضوح، وأن تكون قوية ومقنعة: أين نقف؟ ما هي الأخطار؟ ماذا نريد؟ كيف نحقق ذلك؟
هنا، قد لا تبدو المشكلة فقط في أنّ "الرسالة" لم تصل إلى الرأي العام الأردني، إذا كان هنالك رسالة سياسية وإعلامية مصاغة بصورة عميقة ورصينة، بل في أنّ هذه الرسالة لم تصل إلى المسؤولين، ولبعض الوزراء أنفسهم ابتداءً! أو أنّهم يتعاملون مع مفهوم "الاعتماد على الذات" مثلاً بصورة سطحية، وغير جديّة، بوصفه شعارا للاستهلاك المحلي فقط، من دون أن يشعروا بأنّ هنالك مسارات وقنوات من المفترض أن تسير متزامنة ومتوازية وتنتهي إلى نتائج مشتركة محدّدة وأهداف واحدة.
الانطباع الشعبي عن مفهوم الاعتماد على الذات ما يزال سلبياً، ولا يتعدّى أن يكون فقط تجميلاً وتلطيفاً لسلسلة القرارات التي تمّ اتخاذها في إطار الاتفاق مع صندوق النقد الدولي مؤخراً، أو هو مجرّد اسم حركي للجباية!
في الخلاصة إذا كنّا فعلاً نريد الدخول إلى المرحلة الجديدة (المستقبل) بوعي وطني جديد قادر على مواجهة التحديات، فإنّنا نحتاج إلى أن يتحول مفهوم الاعتماد على الذات إلى ورشة عمل وطنية كبرى، وقبل تغيير ثقافة الناس ومواقفهم من الضروري أن يكون هنالك تغيير للعقلية الرسمية في إدارة شؤون الدولة، وإلاّ سنبقى ندور في حلقات مفرغة.
الغد 2018-02-05