عن جسر الكولا والشماغ الأحمر
عند جسر الكولا في بيروت، طلب إلي سائق سيارة الأجرة الذي يعمل على خط دمشق – بيروت، أن أترجل، فقد بلغنا المحطة الأخيرة في رحلتنا، وهو الذي لم يستطع التخلص من قلقه كلما نظر إليّ في المرآة، وأنا الجالس على المقعد الخلفي، خلفه مباشرة، متدثراً بشماغ أحمر وعقال ... كنا في العشر الأواخر من كانون الأول 1977، و»المربعينية» في أوجها، لكن الطقس في بيروت بدا رحيماً، بخلاف ما كان عليه الحال عند حدود الرمثا – درعا، أو جديدة يابوس– المصنع المتربعة فوق السلسلة الشرقية التي تفصل لبنان عن سوريا، حيث كانت الحرارة منخفضة للغاية، وزمهرير الريح الشرقية يجعل برد الشتاء أصعب احتمالاً.
وضعت حقيبة سفري على كتفي، فهي صغيرة بحجم بكسة البندورة، وبالكاد تتسع لقميص وبنطول و»طابتين» أو ثلاثة من «الكلسات وثياب داخلية، كان لونها من لون البنطلون الشارلستون الذي كنت أرتديه: «فستقي»، لم أكره هذا اللون إلا بعد أن وصلت إلى بيروت، وما زلت حتى يومنا هذا، أحاذره وأتجنبه قدر المستطاع، في الثياب كما في أي شيء آخر ... تفقدت جيوبي خشية أن أكون فقدت الدنانير العشرة التي سأعتمد عليها لتأمين عيشي في المرحلة الأولى من دنيا الاغتراب، كانت أمي قد دستها في جيبي في لحظة وداع خاطفة، قبل أن تنزوي في زاوية عند آخر شارع النادي في الوحدات، لترقب خطواتي الأولى في رحلة الذهاب بلا عودة إلى بيروت ... وما أن وصلت إلى أول محل «صرافة»، وفي لبنان ثمة صراف بين كل صراف وصراف، حتى بادرت لإخراجها لينفحني مبلغاً «مقدراً» من الليرات اللبنانية لم أعد أذكر بالضبط، ولكنه على ما أظن، ركبت السرفيس الموصل من جامعة بيروت العربية إلى مخيم برج البراجنة، ظل السائق الذي اخترت الجلوس إلى جانبه، يرمقني بين الحين والآخر، دون أن أفهم أي معنى أو مغزى لنظراته ... عند أول المخيم استوقفني حاجز «الكفاح المسلح» الفلسطيني، طلب هويتي أو جواز سفري، أخرجته له، أخذ بتقليبه بدقة متناهية، متنقلاً بناظريه بين وجهي وصورة جواز سفري: إلى أن تحدث بلهجة آمرة ومستهجنة: هذا الجواز ليس لك ... أجبته، نعم، هو ليس لي، بيد أنه كل ما أملك، وأنا أريدك أن توصلني إلى أقرب مكتب للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في المخيم ... رضخ للأمر الواقع، وفعل ما طلبت.
تساءلت في داخلي، كيف أمكن لهذا الحاجز أن يكتشف «مؤامرتي» الصغيرة، التي أجبرتني عليها قوانين الطوارئ وقانون مكافحة الشيوعية في تلك الأزمنة، وأنا الذي عبرت بجواز السفر ذاته، حدود دولٍ ثلاث، ومررت بأكثر من عشرين حاجز لقوات الردع العربية (الجيش السوري) منتشرة من المصنع حتى أطراف الضاحية وبيروت الغربية، من دون أن يلتفت إلي أحد؟ ... كان يكفي أن أواجه بمثل هذا السؤال عند حدود الرمثا لأقضي عشرية من السنين خلف القضبان، أو أن يُلقى بي خلف الشمس في سوريا، أو أن أرحل إلى سجن رومية سيء الذكر في لبنان... وسيتعين عليّ أن أنتظر حتى اليوم التالي للتعرف للإجابة على تساؤلي.
بتّ ليلتي في منزل صديق لصديقي في المخيم، واستيقظت مبكراً على وقع مشاجرة، استخدمت فيها أقذع العبارات والشتائم، قبل أن أخرج إلى الزقاق الضيق، لأكتشف بأنه حوار «ودي» بين أب وابنه، يطلب فيه الأب من ابنه، الذهاب للفرن لإحضار المناقيش، من دون عطلة أو تسكع، فيرد الابن بعبارات قاسية من ذات الطراز المستخدم في عبارات الأب ... سألت عن فرن المناقيش، وذهبت لتناول اثنتين منها، واحدة بالزعتر والثانية بالجبنة.
في اليوم التالي على وصولي لبيروت، كان لي لقاء أول مع صديق من حزب العمال الفلسطيني، اقترح أن نلتقي في مقهى المودكا في الحمراء (للأسف المقهى لم يعد موجوداً)، لم اعترض على اختياره، وظننت أنه مقهى آخر، شبيه «بالسنترال» أو «العاصمة» أو «الأردن»، وهي المقاهي التي طالما تسكعنا فيها في وسط عمان، وشهدت على حواراتنا حامية الوطيس حول الوجود وأصل الأنواع وكارل ماركس وتروتسكي وستالين وماو تسي تونغ وتشي جيفارا ... إلى أن انزلني سائق السرفيس قبالة مقهى بالغ الأناقة، خشيت ألا يقبلوا باستضافتي، وتحسست جيبي لتفقد الليرات الخمسين في حوزتي، وهيأت نفسي لدفع كل ما أملك ثمن فنجان القهوة، فالمكتوب يقرأ من عنوانه، ولا يعقل أن يقبل «جرسون» يتحدث بلغات ثلاث، أقل من كل ما أملك، نظير فنجان القهوة، هذا إن كانت نقودي تكفي أصلاً، لسداد فاتورة تلك الجلسة الملعونة ... تبدد قلقي نسبياً بعد أن مررت بأسعار المشروبات والحلويات، وسرت الطمأنينة في عروقي عندما جاء صديقي الذي لم تظهر عليه أية إمارة قلق من ارتياد هذا المكان.
تحدثنا في كل شيء، من دون أن نصل إلى شيء محدد، كان همي الوحيد أين سأبيت في أيامي القادمة، وكيف سأتدبر أمر معيشتي ومعاشي في هذه المدينة التي لا تشبه عمان التي أعرف في شيء ... تسكعنا وتحدثنا عن خيارات واحتمالات، قبل أن نصل إلى جامعة بيروت العربية مرة ثانية، سيراً على الأقدام من شارع الحمراء في بيروت ... ذهب صديقي في طريقه، ووقفت على قارعة الطريق بانتظار سرفيس آخر إلى برج البراجنة، فقد تقرر أن أمضي بضعة أيام أخرى هناك، قبل أن انتقل إلى سكن آخر ... ما أن صعدت السرفيس حتى فاجأني السائق بعبارة «نازل محل ما نزلت امبارح»، أذهلني، وقلت له، كيف تذكرتني وأنت الذي ترى عشرات الوجوه يومياً في حلك وترحالك الذي لا يتوقف في شوارع وبيروت وحاراتها، أجانبي، وهل في لبنان كله، من يرتدي مثل ما ترتدي، وأشار إلى الشماغ الأحمر والعقال الذي كنت ارتديهما لإخفاء الفارق بين شعري الناعم الخفيف والأملس، وشعر صديقي، صاحب جواز السفر، الأجعد المتميز... تذكر السبب وراء النظرات المتسائلة والمستهجنة التي كانت تصدر عن السائق ذاته، في أول مشوار لي من جامعة بيروت إلى برج البراجنة... وعرفت سبب اشتباه حاجز «الكفاح المسلح» بهويتي ... في تلك الأزمنة، كنا نرتدي الشماغ أو الحطة بلا عقال، كانت موضة دارجة، وكان الأحمر يرمز لليساريين منّا، والأسود من حصة فتح، اليمين الفلسطيني بلغة تلك الأزمنة.
شعرت أن «لعبة الإخفاء والاختفاء» التي مارستها لثماني وأربعين ساعة، لم تعد مجدية، بل باتت عبئاً عليّ بدل أن تكون في صالحي، ذهبت إلى مقر الاتحاد العالم لطلبة الأردن، وكنت قرأت اليافطة الخاصة به في اليوم الأول لوصولي إلى بيروت، فهو على مقربة من جسر الكولا، تحيط به مكاتب اللواء أبو الزعيم، وكان يقود جهازاً أمنياً – استخبارياً ذا سمعة ذائعة في الشدة والاعتقالات والتعديات والاختطافات، فالتقيت بمحجوب الروسان، الذي سأعرف لاقحاً أن اسمه الأول سودي وليس محجوب، جلسنا نتحدث ونحتسي الشاي والقهوة اللذين كان يحضرهما بنفسه، فقد كان يتخذ من مقر الاتحاد مسكناً له كذلك، طلبت إليه أن يصدر لي بطاقة هوية عن الاتحاد لأتدبر أمر تنقلاتي في بيروت وبين حواجز السوريين والكفاح المسلح (لم يكن هناك أثر للدولة اللبنانية إلا من بعض دوريات الفرقة 16 بين الحين والآخر) ... وتجادلنا في أي اسم سأختار لوضعه على الهوية، فكان أن اتفقنا على «عماد الرحايمة»، وسيصبح هذا الاسم اسمي المعتمد لسبعة عشر عاماً، وهو سيتبعني كظلي حتى يومنا الحاضر... وسيواصل محجوب/ سودي، منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا، نقاشاته حول أزمة حركة التحرر العربية، وبالحماسة ذاتها تقريباً، مركزاً بشكل استثنائي على أزمة برنامجها.
فرحت بهوية الاتحاد، فقد صار بمقدوري أن أعيد جواز السفر لصاحبه، والأهم صار بمقدوري أن أسير في شوارع بيروت من دون شماغ ولا عقال، وسوف لن أتعرض ثانية، لنظرات الفضوليين، ولن يعرف سائق سرفيس بعد اليوم، من أين صعدت أوأين سأنزل في محطتي الأخيرة ... لقد أنجزت نصف المهمة تقريباً، وبقي أن أتخلص من بنطلون الشارلستون «الفستقي» فقد كان نشازاً تماماً، ولكن المسألة هنا بحاجة لادخار واستثمار، سنعود إليها في قادمات الأيام.
الدستور 2018-02-16