الحق في الحكي
يبقى الحق في الحكي أقل من الحق في التعبير، فالاخير حمل ايديولوجية تاريخية مرتبطة بالاحتجاج وبالنخب رغم ان المطالبة به طالما ارتبطت بالناس والجماهير، لكن الحق في الحكي يرتبط بعامة الناس وحقهم في ان يُصغى لهم وان يقول كل منهم حكايته وان يعبّر عن رأيه فيما يحدث حوله.
الناس يريدون مساحة اوسع ليحكوا ويعبروا اكثر ليس فقط التعبير عن المطالب والحاجات او عن الرفض والاحتجاج او عن الطريقة التي تدار فيها الشؤون العامة، بل يريدون التعبير عن آرائهم فيما يحدث وفيما يخطط لهم وان يحكوا قصصهم وحكاياتهم وسط هذه الظروف العامة، هناك عطش للتعبير والحكي، هناك حاجة عميقة للمشاركة ولو بالحكي مقابل حالة رفض ونقمة واحيانا سخرية من وسائل المشاركة التقليدية السائدة.
في الثقافة الشعبية المحلية يقال الحكي يريح كما هو الحال في الشأن العام، فالناس لديهم رغبة في ان يقدموا افكارهم ومقترحاتهم التي يعتقدون انها سوف تسهم في تحسين نوعية الحياة وربما اصلاح السياسات العامة للدولة، كما ان هناك فئات تعتقد انها تملك حلولا سحرية لمشاكل المديونية والطاقة والمياه وربما الانحباس الحراري ولها حق في الحكي، وعلى جانب اخر ثمة فئات واسعة اخرى تريد فقط ان تُسمع صوتها لمسؤول او لمن يصغي لها وتشرح ما تواجهه من معاناة في عيشها اليومي او معاناتها مع المواصلات ووسائل النقل العام والأزمات التي جعلت المدن لا تطاق واقساط الجامعات والمدارس وفواتير الكهرباء والماء، الناس في لحظة ما يريدون ان يحكوا لمن يصغي لهم.
ولعل هذا الواقع يفسر لماذا يزدهر حضور الناس على شبكات التواصل الاجتماعي في مجتمعاتنا اكثر من المجتمعات التي اوجدتها؛ ويفسر ايضا بأن التضييق على حريات التعبير العامة يقود الى ظواهر اجتماعية وسياسية يصعب التكهن بها. في تقرير التنمية العربية الأخير 2016 المخصص لأوضاع الشباب في العالم العربي ذهب التقرير الى أن أكبر مشكلتين يواجههما الشباب العربي اليوم البطالة وعدم وجود منابر للتعبير والمشاركة في الشؤون العامة وفي كل ما يتعلق بحياتهم.
في اللقاءات العامة وفي الندوات تندهش من حجم عطش الناس للحكي؛ ليس للأسئلة، بل ان يدلوا بدلوهم وأن يقدموا آراءهم ويناقشوا ويعارضوا ويؤيدوا، هذا يعود لخبرة طويلة من الاتصال والتلقي باتجاه واحد، لقد تعود الناس ان يتلقوا المعلومات والتعليمات والاوامر ولم يعتادوا أن يصغي لهم احد، فما بالك حينما تزداد ظروفهم تعقيدا وصعوبة؛ لقد حرمت مجتمعاتنا على مدى عقود طويلة من المشاركة من خلال التعبير رغم أن هذا النوع من أبسط انواع المشاركة وأقلها كلفة سياسية.
في السابق وفي مجتمعات عديدة، شكلت هذه الحالة طبقات من الصمت التي طالما قادت الى الانفجار، وفي السابق ايضا اختبرت بعض النظم السياسية أساليب للتنفيس عن الغضب او النقمة والشعور بالرفض من خلال خلق معادل موضوعي في الفنون والمسرح والدراما، اليوم لا يحتمل الناس طويلا الصمت فلديهم وسائل بديلة للتعبير وهذا ما يفسر حالة قوة انتشار الاكاذيب وأنصاف الحقائق عبر التكنولوجيا الجديدة، حيث يذهب الناس إلى الإشاعات والأكاذيب أكثر لأنها عادة ما تكون ذات بعد عاطفي، ما يجعلها أكثر جاذبية وجمالية وأكثر إثارة وقربا من أمانيهم ومشاعرهم المكبوتة، وهذا ما تفتقده في أحيان كثيرة الحقائق؛ إن قوة العاطفة تغلب قوة المعرفة فالمجتمعات الحائرة والانتقالية عادة ما تكون بيئة خصبة لصناعة التضليل، في الوقت الذي نجدها الأكثر استهلاكا لمنتجات التكنولوجيا الاتصالية وربما الأكثر استهلاكا وإنتاجا للمحتوى الرديء.
ومن هنا فإن الأمر غير المحسوم الى اليوم هو مدى جدوى وسائل التعبير البديلة؛ هل ستكون أدوات صديقة للديمقراطية أو وبالا عليها وتزيد الأمور تعقيدا؟ لى أن يسحم الأمر أصغوا للناس ودعوهم يحكوا.
الغد 2018-02-24