في البحث عن «يسار جديد»
ستنتهي المرحلة الثانوية بكل “اكتشافاتها”و”سجالاتها”، وستخرج مجموعة منّا للبحث عن طريقها للمستقبل، جواد البشيتي سيغادر إلى القاهرة لاستكمال تعليمه وربما لـ “إشعال الثورة البروليتارية” في دولة “المركز”، سليمان الخياط سيذهب إلى أسيوط لدارسة الطب، فتلك غايته وغاية والده الملحاحة ... خالد المغربي، سيذهب إلى الجزائر لاستكمال تعليمه، قبل أن يكتشف بأن له جذوراً هناك ... فوزي منسي سيكمل تأهيله ليصبح مدرساً، أما المرحوم موسى فودة وصديق طفولته علي الحاج، فسيذهبان إلى العراق لاستكمال الدراسة، مع أن طموح موسى كان أن يصبح طياراً حربياً، وهو طموح رافقه طوال حياته، حتى أنه كان يحفظ عن ظهر قلب، كافة أنواع الطائرات المقاتلة والقاذفة والسمتية، وخصائص كل واحدة منها والحروب التي شاركت فيها.
وسنبدأ رحلة البحث عن “يسار جديد” يليق بما انتهينا من قراءات ودراسات في الأدب الماركسي، وسنفترض أن “اليسار الفلسطيني” هو الأقرب إلى نمط تفكيرنا، بعد أن ضاقت علينا عباءة الحزب الشيوعي بشقيّه، وسنتعرف على “توفيق الحج حسين”، وهو يكبرنا بعام أو عامين، كان على “صلة ما” بالجبهة الشعبية، ويحصل على مجلة”الهدف” بانتظام دون أن يبلغنا، وكم أدهشتنا معارفه التفصيلية بحركات التحرر الوطني في أفريقيا وأمريكا اللاتينية، واحدث أنبائها وتطوراتها، قبل أن نكتشف أنه كان يقرأ مجلة الهدف، من وراء ظهورنا، ويحفظها تقريباً عن ظهر قلب، ويمارس تفوقه علينا، نحن الذين تفوقنا عليه في التحصيل المدرسي على الأقل.
كان توفيق طالباً معيداً في ثانوية فلسطين للخطوط الأمامية، وهي مدرسة كانت تقع في الدوار الثالث لجبل عمان على مقربة من مستشفى عاقلة والمركز الثقافي السوفياتي في تلك الأزمنة ... كنت أفهم أن يكون اسم المدرسة “فلسطين” أما حكاية “الخطوط الأمامية”، الذي يحيل إلى كلية حربية، فلم أفهمه حتى الآن، سيما وأن غالبية طلابها، كانوا من الطلبة الذين لم يحالفهم الحظ في التوجيهي، أقنعناه بأن يعيرنا الهدف بانتظام، فيقوم بتصوريها وتوزيعها علينا، وكانت تستنفد مصروف أربعة منا لأسبوع على أقل تقدير ... كان تصوير الوثائق باهظ الكلفة في تلك الأيام، ونادراً.
وسنتعرف فوراً على سهيل صباح، الذي ستبقى علاقتي مستمرة حتى يومنا هذا، برغم اختلاف المواقف السياسية والفكرية في البدء، وهو الاختلاف الذي سيتحول إلى أعلى درجات الانسجام بعد عشرين عاماً أو ربع قرن على لقائنا الأول، وسندخل سوية الجامعة الأردنية، وسيعرفني على محمد مشارقة، الصحفي المعروف في الأردن وفلسطين، المقيم في لندن حالياً، وسنبدأ رحلة البحث والتمحيص في ثنايا الفصيلين الرئيسين لليسار الفلسطيني: الجبهتان الشعبية والديمقراطية.
بخلاف الجبهة الديمقراطية، كانت الجبهة الشعبية في الأردن تعاني حالة ارتباك، فهي قررت بعد أحداث 70 -1971، حل “تنظيمها الأردني” وتشكيل ما سيعرف لاحقاً باسم “حزب الشعب الثوري الأردني”، وستحتفظ إلى جانبه بتنظيم يعنى بشؤون الأراضي المحتلة، غير منخرط في أي نشاط على “الساحة” الأردنية، باعتبار أن حزب الشعب، هو ممثلها الشرعي الوحيد على هذه الساحة.
وسنعرف لاحقاً بأن قيادة حزب الشعب أوكلت إلى أحمد محمود إبراهيم (أبو عيسى) وبريك الحديد، وستشتهر هذه الأسماء لاحقاً، بعد محاولتها الفاشلة إدخال صواريخ للأردن، بمساعدة من وديع حداد، البعض يقول إنها كانت معدة للتهريب إلى الضفة الغربية، والبعض الآخر قال إنها كانت معدة للاستخدام في الأردن، حكم على بريك بالإعدام قبل أن يخفض إلى مؤبد، ويخرج بعفو خاص مع استئناف الحياة الحزبية والبرلمانية في الأردن.
لم يكن الحزب في مبناه ووظيفته، مقنعاً لنا، كان فقيراً جداً في أدبياته، قبل أن نفاجأ بالسوية الفكرية المتواضعة جداً لقيادة الحزب بعد أن تعرفت على “أبو عيسى” و”أبو العبد عزيز”، في بيروت لاحقاً، الأول توفي في عمان والثاني سادت إشاعة بأنه قتل على يد جماعة أبو نضال (صبري البنا) في سهل البقاع اللبناني، كانت فوضى الحزب الداخلية وميله لاستخدام العنف سببين كافيين لعدم تجاوبنا مع محاولات ضمنا إليه، رغم أنه لم يسجل نجاحاً واحداً في تنفيذ أية عملية عسكرية في الأردن، فجميعها باءت بالفشل أو كشفت قبل أن تنتقل إلى حيز التنفيذ.
اهتدينا إلى “فرع الأرض المحتلة” في الجبهة الشعبية، وآثرنا الذهاب إلى الأصل بدل الفرع، وكان من حسن طالعنا أن أول مسؤول لنا كان رجلاً مثقفاً ومتواضعاً، كان يعمل مدرسا في إحدى الثانويات، ولديه مكتبة “عامرة” بكل ما يمكن أن تقرأه عن إسرائيل، عشرات الكتب والدراسات التي كانت تصدر أساساً عن مركز الأبحاث الفلسطيني في بيروت، يومها بدأ “تأسيس” معارفي بإسرائيل، وأنا مدين لتلك الحقبة، حتى يومنا هذا... وقد ضمتني تلك الخلية إلى جانب سمير الحنيطي، الطالب في السنة الأولى في كلية العلوم – قسم الكيمياء، والذي سنرتبط سوية بصداقة عميقة، قبل أن تفرقنا الجغرافيا وسنوات الغربة الطويلة ولاحقاً الاهتمامات المتفاوتة.
لم يطل بنا المقام طويلاً في “الأرض المحتلة”، فالخلاف سرعان مع اندلع بين “الشعبية” و”حزبها”، وأحسب أنه امتداد لخلاف داخلي في الجبهة بين “العمليات الخارجية” بقيادة وديع حداد، والتنظيم الأم، وسيفترق أبو عيسى عن المرحوم “أبو علي مصطفى”، وستوفد الجبهة من العراق، بشاب اسمه “أبو حسن درويش”، الذي سيتولى بالتنسيق مع بعض القيادات الخارجة لتوها من السجون، إحياء فرع الجبهة الشعبية في الأردن، وسنكون أول “خلية” تعمل على هذا المشروع، وسنضع نصب أعيننا هدف التواصل مع الأعضاء السابقين، الذين لم ترقهم فكرة حزب الشعب، أو غادروه عند اندلاع الخلاف، كما سنعمل على تشكيل منظمتين طلابية ونسائية، لعبت وسمير الحنيطي دوراً في توسيع الأولى، وتولت عبلة طه، مسؤولية الثانية.
لكن الجبهة الشعبية على تعدد أطرها واضطراب تنظيمها الداخلي في تلك المرحلة، لم تكن الفصيل اليساري الوحيد الذي يندرج في إطار الموجة اليسارية الجديدة، كانت هناك الجبهة الديمقراطية، وسنعرف سريعاً، أن سهيل صباح ومحمد مشارقة هما من كوادر هذا التنظيم، وسنتعرف في سنتنا الجامعية الأولى، على علي عامر، الذي لن يطول به المقام طويلاً قبل أن يدخل السجن مع مسؤول الحزب الشيوعي في الجامعة سمير صالح، وكلاهما سيتولى لاحقاً مسؤوليات هامة في السلطة والمجتمع الفلسطينيين بعد التوقيع على اتفاق أوسلو وقيام السلطة الوطنية الفلسطينية.
لست أبالغ إن قلت إن سهيل صباح من أذكى إن لم يكن أذكى من تعرفت إليهم من عشرات الأصدقاء والأحباء، في مسيرة عملي السياسي والحزبي، كان الشاب شديد الحماسة، متقد الذهن، سريع البديهة، لديه اعتزاز وكبرياء شخصي ووطني عاليين، ظلت صداقتي به مستمرة حتى يومنا هذا، وله الفضل في إدخالي مبكراً إلى عوالم تكنولوجيا المعلومات، وربما كانت له بصماته غير المباشرة، في دفع ابني البكر، يزن، لسلوك هذا الطريق، وصولاً إلى شركة مايكروسوفت ذاتها، في مدينة سياتل على الشاطئ الغربي للولايات المتحدة.
كانت اللحظة السياسية عند دخولنا الجامعة في أواسط السبعينات، مشحونة سياسياً وفكرياً بامتياز... كان طلبة الجامعة الأردنية موزعين على الأحزاب ... وكان الإخوان المسلمون في بدايات صعودهم الأولى، لم يكونوا قوة ضاربة، وكانوا على وفاق تام مع التيارات الطلابية المحسوبة على السلطة في تلك الأزمنة، انسجاماً مع تحالفات الحرب الباردة، وكان الدكتور عبد السلام المجالي رئيس الجامعة، يراقب المشهد عن كثب، يتدخل في الوقت المناسب، وغالباً بصورة أبوية، قبل أن يأتينا الدكتور اسحق الفرحان رئيساً، بمشروع بدأ بمحاولة الفصل بين الجنسين في الفصول الدراسية، وإغلاق الكافتيريات والمطاعم في رمضان، وهي التي لم تكن تغلق أبوابها في تلك الأزمنة.
دخلت وسهيل، ولفيف من الطلبة اليساريين معترك الانتخابات، ولم نوفق، وسعينا لملء الفراغ الذي خلفته حملة اعتقالات طالت قيادات العمل اليساري والشيوعي في الجامعة الأردنية، وشملت أيضاً رموزاً محسوبة على يسار فتح، من بينهم أحمد سلامة، الذي سيكون له شأن متميز في عالمي الصحافة والسياسة الأردنيين... وستأخذنا السياسة من كلية الطب والهندسة إلى العلوم السياسية، فلا متسع من الوقت للمختبرات والكتب السميكة، لدينا مهام أكثر إلحاحاً، يغذيها جموح لـ “تثوير” الحركة الطلابية من جهة، وجدل لا ينتهي حول الخيارات الفلسطينية، وانقسام اليسار الفلسطيني بين مؤيد لـ”نهج التسوية”، مثل الجبهة الديمقراطية ونقاطها العشر، ومعارض له بقيادة الجبهة الشعبية من جهة ثانية.
لم يعد ثمة ما يشفي غليلنا للمعرفة والحسم بين التيارات اليسارية المتصارعة، قررنا أربعتنا، سهيل صباح ومحمد مشارقة ومحمد صلاح، والأخير طالب من نابلس، أدهشتنا روحه المرحة و”نزعته الفوضوية –البوهيمية”، أن نذهب إلى بيروت، للاستزادة من “رأس الكوم”، ولأننا لا نمتلك ما يكفي من المال لإتمام الرحلة، قررنا امتطاء القطار إلى سوريا، ومن هناك “بفرجها الله”، وطاردنا القطار من المحطة إلى الزرقاء، قبل ان نلتحق به بالمفرق، وما أن نزلنا في محطة الحجاز في دمشق، حتى بدأنا رحلة البحث عن “اليسار الفلسطيني، ومن هناك انتقلنا إلى بيروت، وأجرينا ما تيسر من لقاءات وحوارات، عدنا بعدها أكثر انقساماً وتباعداً بالمعنى الفكري والسياسي وليس بالمعنى الشخصي، رافقني محمد صلاح في رحلة العودة، وعاد سهيل ومشارقة في اليوم التالي، وقد بدا أن محاولات تجسير مواقفنا، قد انتهت إلى طريق مسدود، فقبلنا ببعضنا كما نحن، وقررنا إدارة اختلافنا... وللبحث صلة.
الدستور 2018-03-03