الإنسان الشبكي أو الفرد الذي يصنع صورته ثم يتبعها
قال بيكاسو معلقاً على لوحته التي رسم فيها الكاتبة الأميركية غيرترود شتاين، إنه يعلم أنها لا تشبهها، لكن مع مرور الوقت سوف تشبه غيروترد اللوحة، وعندما نحت مايكل أنجلو تمثالين يفترض أنهما لأميرين من أسرة ميديتشي قيل له إن التمثالين لا يشبهان الأميرين، فقال: بعد سنوات طويلة لن يعرف أحد الفارق.
أتاحت المطبعة للسلطات السياسية والنخب أن تضع للمجتمعات والأفراد الصورة التي تتبعها، كان في مقدورها باحتكارها المطابع والصحف ومحطات الإذاعة والتلفزة والمدارس والجامعات والمعابد أن تنشئ أو تتخيل الهوية والأفكار والثقافة والدين والخطاب والمعنى ثم تلحق بها المدن والأسواق والتلاميذ في المدارس وقراء الصحف ومشاهدي التلفاز ومستهلكي السلع، والمؤمنين المتدينين والجيوش والموظفين كما العمال والفلاحين والموظفين.
لكن النخب اليوم لم يعد بمقدورها الاستمرار في اللعبة، وقد تتبخر إذا لم تلاحظ أنها نجحت بذلك بفضل المطبعة وأن الإنترنت تحول قلاعها وهياكلها إلى تلال من الرماد، بل إنها تثير الضحك والسخرية وهي تواصل إدارتها للمناهج التعليمية والمؤسسات الإعلامية والشؤون الدينية، وتهدر الموارد والضرائب التي تجمعها من أقوات المواطنين في الفشل والخواء. هل تعتقد إدارات المحطات الإذاعية والتلفزيونية في عالم العرب أن أحداً يستمع إليها أو يصدقها؟ وهل يعتقد وزراء الأوقاف الذين يوزعون خطبة الجمعة على المساجد ويلزمون الوعاظ بقراءتها أنهم بذلك قادرون على التأثير في المصلين وتوجيههم نحو أهداف السلطة وأحلامها أو ما يقولون إنه الحق والصواب؟
صحيح بالطبع أن الذات تظل تتبع صورتها في كل العصور والمراحل، لكن هذه الصورة تتحول إلى صناعة ذاتية، فلكل فرد في عصر الشبكية صورته التي ينشئها ثم يتبعها ولم يعد لسلطة أو جهة القدرة على احتكار هذه الصورة أو فرضها، فهذا الطفل الذي يشاركه أصدقاء آخرون في جميع أنحاء العالم في الألعاب والصداقة، ويتبادل معهم الحوار والأفكار يحدد هويته التي يتبعها بعيداً من المدارس والكتب المدرسية والأسرة والمعبد، وهو بلوحه الإلكتروني الذي يحمله يشارك مستقلاً في العالم ويتلقى منه بلا وساطة أو وصاية أو قدرة على التدخل في شأنه.
وعندما ترفض النخب السياسية والاقتصادية استيعاب التحولات الكبرى التي تغير الاتجاهات والأفكار السياسية والاقتصادية والاجتماعية، أو تحاول تحدّيها أو تجاهلها، وكأنها ليست موجودة، أو تظن أن في مقدورها احتكار التأثير فيها، فإنها تضيف إلى الفشل أزمات سياسية واجتماعية، وتهدر الوقت والموارد، فكل فرد اليوم يرى نفسه على نحو مستقل عما تراه النخب ويسلك أيضاً باتجاه وعيه هذا بعيداً عما تريده السلطات والنخب، وفي عدم اكتشاف ذلك فإن النخبة تنشئ بوعي أو بلا وعي حالة من الانقسام الاجتماعي والكراهية.
يبدأ الاستيعاب بالاعتراف والإدراك الكافي والملائم للتحولات وأبعادها الاقتصادية والاجتماعية وتأثيرها في المؤسسات والمجتمعات والعلاقات الناشئة أو المتوقعة بين السلطة والأسواق والمجتمعات، ثم الدخول وفي سرعة ونية حسنة في عمليات استماع وملاحظات حرة ومبدعة واسعة للمسار المتوقع للمؤسسات والأفكار والموارد والقيم المنظمة للسياسة والاقتصاد والثقافة.
لا أحد يملك في هذه التحولات التي تقترب من كونها فوضى شاملة أن يعتقد أنه يقدم تصوراً وفهماً صحيحاً، ففي انقطاعها عن الماضي ليس ثمة معطيات كافية للتقدير والاستشراف، لكنا نملك أن نفكر ونتخيل ونقترح، ونقتبس منتجات الانشغالات الواسعة في العالم في فهم واستيعاب العصر الجديد، عصر الشبكة أو المعرفة. فما يجري من فوضى وارتباك في بلادنا ليس مختلفاً عما يجري في العالم حولنا. لكن الفرق يكمن في أن العالم مشغول بجدية وعمق.
لقد خسرت النخبة الموارد الناشئة عن احتكار المعرفة، وصارت مشاعاً، وبذلك فإنها تفقد قدرتها على احتكار تنظيم التعليم والإعلام والثقافة والدين، وتتجه الطاقة أيضاً إلى أن تكون مورداً فردياً ينتجها كل فرد بنفسه ولنفسه، وتتجه الاتصالات التي تتحول إلى احتواء الأعمال والمعرفة والعلاقات وإدارة الأموال والمؤسسات والخدمات الحكومية والخاصة لتكون مرفقاً مشاعياً مثل الطرق والجسور، ويجب أن تعيد الدول والمجتمعات والأسواق إدارة علاقاتها وشؤونها على أساس هذه الحقيقة الجديدة، وكلما تأخرنا في ذلك نطيل عمر الفشل والأزمات والصراعات.
الغد 2018-03-15