احموا الحجل
في صيد الأسماك، ما عليك إلا أن تلقم فم صنارتك طعماً متحركاً وترميها في عرض النهر، أو لجة البحر. ثم تمارس صبرك، كعجوز قنوع (فالصبر زاد الصيادين وماؤهم)، وقد تتسلى فتتلو أحلامك للماء، وتتخيلها أمامك، وهنا متعة الصيد ولذته.
أما في صيد الحجل (ويسمى أيضاً الشنار، وهو طائر بري بحجم حمامة، أو أصغر بقليل)، فالأمر مختلف تماماً. فالحجل، كالفضائل، لا يصطاد بسهولة، بل يحتاج فوق الصبر مداراة، وتركيضاً، وتعباً وتدريجاً (التفتيش في الأرض بعين فاحصة، لأنه يتخفى ويتماهى بترابها).
وما زالت الأغنية الشعبية المشحونة بالشجن تصدح (ظليت أدرج حجل، من وادي إلى وادي، وأعد نجوم الضحى جوازي وفرادي). أي كم هو صعب صيد الحجل، والتدريج له، فهو بصعوبة عدِّ نجوم الظهر عداً زوجياً وفردياً!، ورغم هذا، فالتهافت على صيده، كان وما زال مثيراً، ليس لأن لحمه لذيذ وشهي فقط، بل لأنه طائر عزيز، له من الذكاء والمراوغة، ما يجعل قنصه أمنية لكل صياد عاشق.
يعجبني في طائر الحجل حبه للحياة وبوح السماء، وأُكبر فيه صفة التضحية من أجل الآخرين، إن جد الجد، ولهذا قد ترى الأم ترمي بنفسها صيداً سهلاً بين يدي الصياد، كي تنقذ فراخها، وتمنحهم فرصة الهرب والاختفاء، في حال اكتشاف عشها.
كما يوجد في كل رف من رفوف حجل (هذا الطائر يتنقل على شكل اسراب ورفوف) يوجد طائر متطوع يسبق الآخرين إلى عيون الماء، ويشرب ثم ينتظر لفترة، فإذا تأكد من خلو المنطقة من الصيادين، أعطى بصوته شارة لبقية الرف لورود الماء بسلام.
والحجل روحه مربوطة بسماء الحرية والعلو، ولهذا فإذا أصابته رشة من خرطوش صيد، فتراه يكابر على جرحه، ويتعالى على آلمه، ويأبى أن يموت بين يدي صياده، بل يطير طيراناً عامودياً، يعلو ثم يعلو، حتى يغدو مثل نقطة بعيدة في السماء، وجرحه ينزف حتى آخر قطرة من دمه، ولا يسلم الروح إلا في أعلى ارتفاع وصلته همته، ثم يسقط إلى الأرض كحجر.
من أجل هذا الطائر الأبي، الذي علّم أجدادنا وآباءنا وعلمنا، ألا نتمنى الموت إلا وغبار الطريق على أقدامنا، وعلمنا حب الحياة حتى في سماء الوجع والنزف. ما استطعنا إلى ذلك سبيلا. من أجل هذا الإباء. أرجو أن يتم إدراجه ضمن الطيور الممنوع صيدها، لعشر سنوات قادمة على الأقل، كي نمنحه فرصة التكاثر في أرضنا، فهو قاب صيدين أو أدنى من الإنقراض.
الدستور 2018-03-19