إعادة مقايضة لتحجيم النصر
ليس ممكنا أن يكون الموقف أكثر غرابة وتشويشا مما هو عليه اليوم. نحن إزاء احتمالات تمتد من مواجهة حربية كبرى الى استعراض هزلي عابر. وتصريحات ترامب الغرائبية تفتح على كل هذه الاحتمالات في الوقت الذي تمتنع فيه شخصيته الكاريكاتيرية غير المتزنة على التوقعات وتصعّب على المراقبين وضع أي تقديرات.
لو لم يكن ترامب لحبسنا أنفاسنا ووقفنا على رؤوس أصابعنا ونحن نقرأ تغريدته يوم الأربعاء التي ترد على التحذير الروسي بإسقاط أي صواريخ تطلقها الولايات المتحدة بالقول "استعدي يا روسيا إذن، فصواريخنا قادمة وستكون جميلة وجديدة وذكية"، أي تصريح أقوى من هذا لنتوقع هجمة قاصمة خلال ساعات؟ وبالفعل انتشرت تقديرات في تقارير الصحفيين أن الهجوم قد يبدأ ليل الأربعاء، كما انتشرت التخمينات عن طبيعة هذه الصواريخ "الجديدة" والذكية التي لا تنالها المضادات. لا يمكن تخيل رئيس أعظم دولة يتكلم بهذه الخفة عن أسلحة وعن هجوم عسكري، لكن سبق لترامب أن تحدث بالخفة نفسها عن مواجهة نووية مع كوريا الشمالية عندما ناكف رئيسها، قائلا إن يده على زر نووي أكبر ثم بعد حين انتقل الى الحديث عن لقاء مع الرئيس الكوري سيحقق مفاجأة عظيمة. تصريحات الحليفين البريطاني والفرنسي جاءت أكثر جدية واتزانا، فهي لم تنف احتمالات الضربة، لكنها أكدت أنها قيد الدراسة والتفاهم بين الحلفاء. وانقلب ترامب لممارسة لعبة الغموض في تغريدة أمس، تقول إن الهجوم قد يكون قريبا جدا وقد لا يكون قريبا على الإطلاق!!
سبق لترامب أن وجه في نيسان 2017، ضربة تأديبية طالت قاعدة الشعيرات الجوية ردا على الهجوم الكيماوي على بلدة خان شيخون، لكنها لم تستطع ولم تقصد تغيير موازين القوى، بل فقط رسالة للداخل أيضا أنه رجل قول وفعل، وأعلن في حينه أنه لن يتساهل مع أي استخدام جديد للأسلحة الكيماوية، لكن الآن لا معنى لرسالة تأديبية أخرى، فقد طارت الطيور بأرزاقها واستعاد النظام الغوطة الشرقية، وما تبقى سيكون مسألة وقت، والمشهد كما هو عليه اليوم يعلن انتصارا سوريا روسيا إيرانيا لا جدل فيه، له أبعاد إقليمية ودولية تستطيع مراكز القرار وخزانات التفكير الغربية أن تفهمه أكثر من ترامب شخصيا، لكن الرئيس الأميركي يعرف غريزيا هذه الحقيقة مهما تبجح وكابر، وهو قد لا يكون مكترثا لانتصار نظام الأسد بذاته، وقد أطلق تصريحات عن توجه للانسحاب من سورية قريبا، وقد يغمض العين عن بوتين، ما يزال يكن له الإعجاب في أعماقه ويتهم قبل يومين التحقيقات الفيدرالية بتخريب العلاقات معه، لكن ليست إيران العدو المباشر هذه الأيام والذي يبدو مصمما على المضي قدما في مواجهتها. وعلى كل حال، فأمام الغرب سؤال اليوم اذا ما كان سيتفرجون عاجزين ومستسلمين على الانتصار الروسي الإيراني السوري ومعهم حزب الله الذي تنظر إسرائيل له ولإيران كقوة متمددة على حدودها لا يمكن التساهل معها.
استخدام الكيماوي في دوما أكان حصل أم لم يحصل، هو الذريعة لفعل أكبر كثيرا من مجرد ضربة تأديبية. استعادة الغوطة الشرقية حققت للحلف الروسي السوري الإيراني نصرا حاسما كان الغرب يراقبه بلا حول ولا قوة سوى الاحتجاجات العاجزة على معاناة السكان ومجازر المدنيين، ومن الطبيعي أن المحطات المقبلة هي اكتساح مناطق درعا والجنوب ومناطق إدلب وما تبقى بيد المعارضة في الشمال. ولا يبدو أن الغرب يريد التسليم بهذا النصر قيد الإنجاز والاكتمال. التلويح بضربة عسكرية يفترض أن يؤدي الى إحدى نتيجتين؛ أولا: قبول التحالف المنتصر بالعودة الى طاولة التفاوض السري تجنبا للهجوم العسكري؛ حيث ستطلب أميركا عدم تقدم النظام السوري أكثر وتثبيت هدنة عسكرية شاملة تبقي بيد الغرب أوراقا (مناطق) للتفاوض حول الحل السياسي، ثانيا: إذا لم تتم الاستجابة في وقت قصير، يتم تنفيذ هجوم عسكري واسع، لكن متدرج؛ أي يبقى مفتوحا ودائما للاستمرار؛ أي عمليا دخول التحالف الغربي كطرف مباشر في الحرب لمنع تقدم قوات النظام وحلفائه الى مناطق جديدة وفرض قواعد جديدة للتفاوض أكثر تكافؤا بين النظام والمعارضة حول الحل السياسي. الحديث أعلاه يفسر قول ترامب في تغريدته أمس "إن الهجوم قد يكون قريبا وقد لا يكون".
الغد - الجمعه 13/4/2018