جنون التاريخ وتوحش الجغرافيا!
حين كنا صغارا نلثغ بالابجدية ونتأقلم مع رائحة الطباشير وغبارها، كان معلم اللغة العربية يتحدث عن الفاعل والمفعول به والمفعول لأجله ايضا بشكل مجرد، فلا ندري من هو الفاعل ومن هو المفعول به! وكان يعاقبنا اذا رفعنا الحال او نصبنا المبتدأ ولم يخطر بباله ان زمنا سيأتي يكافأ فيه العربي بعدد الاخطاء التي يقترفها كما نشاهد على الشاشات!.
وكان يسمى اليمن سعيدا والعراق ارض السواد لشدة اخضراره، ويسمي حلب الشهباء والموصل الحدباء او ام اربيعين، ولم يخطر بباله ايضا ان هذه الصفات ستصبح بعد نصف قرن اشبه بحفلة تنكرية، او تتحقق فيها نبوءة جورج اورويل السوداء، بحيث يصبح معنى الحب هو الكراهية، ومعنى الخيانة هو الشطارة والبطولة، واخيرا يصبح الشفق غسقا والغزال قردا!
وكان اسم هذه التضاريس الوطن العربي، ولم تكن عبارة العالم العربي قد تسللت الينا كي تمهد لزمن يكون العرب فيه مجرد جيران لبعضهم على طريقة «آخرة الاخوة جيران» وما حدث كان أبعد من ذلك وأقسى، فآخرة الاخوة الآن اعداء !
ما حدث بعد ذلك هو جنون التاريخ وتوحش الجغرافيا،.. وحين كان المعلم يقول لنا نقلا عن طه حسين ان حق التعليم كالماء والهواء، لم يتخيل ان يوما سيأتي تبهظنا فيه فواتير الهواء البارد والساخن والماء المعبأ بزجاجات.
هذا ليس بكاء على الاطلال بقدر ما هو تعبير عن تناقض حاسم بين ما امعناه صغارا وما رأيناه كبارا !!!
الدستور - الاربعاء 25/4/2018