معنى السياسة اليوم عند العرب
عمليا يعد مفهوم النظام الإقليمي العربي في عداد الموتى منذ زمن، وينسحب ذلك على ما ارتبط به من مفاهيم فرعية مثل الأمن القومي والأمن الإقليمي العربي وحتى مفاهيم التعاون الإقليمي، وعلى الرغم من أن بدايات الاعتلال الواضحة لهذا النظام تعود الى بداية التسعينيات بعد الاحتلال العراقي للكويت، إلا أن السنوات السبع الأخيرة قد أنهكت ما تبقى من هياكل هذا النظام وحتى ذكرياته والثقافة السياسية التي أحاطت به، التغير هذه الأيام ينال القيم التي وضعت جذور السياسة في هذا الجزء من العالم بعد الحرب العالمية الثانية، والأخطر أن التغيير يستقبل باحتضان من قبل المجتمعات أحيانا.
العالم العربي يشهد حالة تشويه غير مسبوقة في الثقافة السياسية هذه الأيام تنتقل بالمجتمعات من الخوف على مستقبل الديمقراطية الى الخوف من الديمقراطية، وينتقل الناس من ردود الفعل في حماية الحياة والميل الى طلب الاستقرار الى حالة من الخوف المرضي من أي نوايا للتغيير، بينما تمارس النظم الرسمية التقليدية والجديدة على سواء التخويف وبناء الحواجز والإقصاء؛ في السابق كانت تلك النخب تخجل من معاداة الديمقراطية عكس ما يحدث اليوم؛ إنها قطيعة جديدة الأخطر فيها أنها تدشن في العمق الاجتماعي للمجتمعات، ما يجعلها البقعة السوداء الأكبر في تاريخنا المعاصر.
توفر التحولات المتتالية في المشهدين الدولي والإقليمي فهما نادرا للطريقة التي تصنع فيها السياسة في هذا الجزء من العالم؛ أي كيف تختلف النخب السياسية في العالم العربي في التفكير والممارسة السياسية عن بقية خلق الله في العالم، كيف تسود الذهنية الثأرية والرغبة في الانتقام فوق كل الاعتبارات، ولماذا تعود الى تقاليد الغالب والمغلوب، وكيف أصبحت الفرضية الصفرية؛ أي نحن أو الطوفان، الأساس في إدارة الصراعات، وكيف تبنى التحالفات وكيف يتبدل الأعداء، ثم ما تبقى من قيم تضبط العمل السياسي، وكيف تهيمن الزبونية الجديدة على علاقات الداخل بالداخل والداخل بالخارج.
يجب القول إن الجديد في تاريخ الأفكار السياسية في العالم العربي وحول المحركات الداخلية، بات اليوم أكثر اعترافا بالدور الحاسم للجغرافيا؛ هو الاعتراف الضمني بثقل الهوية الثقافية للجغرافيا السياسية المطروحة، وهي الثقافة التي يعبر عنها في السنوات الأخيرة بالإسلام السياسي؛ فالغرب يدرك تماما أن القوى السياسية المحافظة وأحيانا المتطرفة هي الأكثر قدرة على الحسم في الكثير من الثقافات، وهو ما حدث حتى مع الإسرائيليين، على سبيل المثال، ولكن هذا الحل الذي تذهب إليه سياقات الطفرة التاريخية ليس مضمونا في كل الحالات، والأهم أن الأنظمة الإقليمية التي تحكم السياسة العربية مفرغة من كل مضامينها ولم تعد فاعلها بحدها الأدنى، ما يجعل هذه الجغرافيا مفتوحة على نسخة جديدة من الاستعمار أو الممارسات الكولونيالية بأبعادها الاقتصادية والثقافية.
إن مصدر الصراع التاريخي حول الشرق الأوسط يكمن في إغراء الجغرافيا السياسية وما تشكله من قيمة اقتصادية وثقافية وصراعية، وفي كل حلقة تاريخية من حلقات الصراع منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام، كانت مضامين وخطابات الصراع تتغير، إلا أن الجغرافيا تبقى ثابتة، منذ ذلك الوقت وحتى اليوم بقيت حسابات التاريخ وما تزال قائمة على الجغرافيا وحساسياتها ومواردها ورموزها الثقافية، وهذا ما ستثبته السنوات المقبلة حينما نرى من يعرف أن يقرأ الخرائط.
معنى جديد للسياسة يتبلور وسط الطبقات السياسية، تتراجع فيه القيم التقليدية وتخلع جذورا بعيدة وتمحو هويات أسست كيانات وشكلت مجتمعات، يحدث ذلك من دون أن يتبلور بديل هذه المعاني والتحولات تنتقل بسهولة الى المجتمعات التي لا تكتفي بقتل الآباء بل تفعل أكثر.
الغد - الاثنين 7/5/2018