من الإنشاء السياسي إلى الإنشاء الاقتصادي
أرسلت الحكومة مشروع قانون الضريبة إلى مجلس النواب ويبدو أنها لم تستفد من الحوار الذي دار حول مشروع القانون والذي كانت الحكومة اللاعب الرئيسي في إدارته، وهذا هو الشوط الأول من الحوار ومفترض أن يستمر مع البرلمان صاحب الكلمة الأهم في التشريع، وربما تكون الحكومة تركت الإقرار بقبول إرساء تعديلات جوهرية على القانون للبرلمان، وذلك لإضفاء بعض الشرعية الشعبية على تمرير القانون .
يحق للحكومة أن تدخر أي تعديلات إصلاحية ومنحها للبرلمان لهذا الهدف أو غيره ؛ فهذه هي السياسة ، لكن المشكلة أن لا يتحول الخطاب العام حول الإصلاحات الاقتصادية الى مجرد إنشاء فارغ كما فعلنا مع الإصلاح السياسي على مدى نحو 30 عاما، وبالتالي نجد أنفسنا في دائرة الإصلاحات الانتقائية المفروضة من الخارج؛ فإلى هذا الوقت تبدو أطروحة أن الإصلاحات الضريبية تعبر عن قرار وطني سيادي ومدروس ويعبر عن الصالح العام غير مقنعة لدى السواد العام؛ وحتى النخب التي تعرف جيدا أن هذا التشريع يعكس التزاما لمتطلبات وشروط البنك الدولي فهي في الأغلب لا ترى أنه يعكس الصالح العام الوطني في هذا الوقت، حاول الخطاب الرسمي خلق حالة وطنية واستحضار مشاعر خاصة حينما ركز على الضغوط التي يواجهها الأردن ضمن خرائط التحالفات الإقليمية وكيف أن الأردن صمد ورفض تغيير مواقفه وبالتالي خسر المساعدات العربية وتمارس عليه ضغوط سياسية واقتصادية؛ وعلى الرغم من أن هذا الكلام صحيح تماما إلا أننا نحوله الى مجرد إنشاء سياسي وكلام بلا قيمة حينما يتم توظيفه في سياق لا يخدم الصالح العام.
الانتقائية في السياسات الإصلاحية هي التي تجعل الإصلاحات الضريبية مشوهة وغير مقبولة؛ حينما يتم تحويلها الى مجرد جباية مالية لسد العجز وتخرج من سياق الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، كان من المفترض تطوير رؤية وطنية لزيادة قاعدة المكلفين بدفع الضريبة من 5 % الى 20 % خلال السنوات العشر المقبلة وليس مجرد 5 %، لأن التعريف الموضوعي للاعتماد على الذات يعني أن تعتمد الدولة على جيوب مواطنيها وهذا المعنى الحقيقي للسيادة في المجتمعات كافة التي طورت صيغا مستدامة لسيادة الدولة وكرامة المواطنين .
توسيع قاعدة المكلفين في الحالة الأردنية يرتبط أولا : بحجم التهرب الضريبي؛ حيث لا أحد يستطيع أن يقدر بدقة حجم قاعدة المتهربين، لكن هناك انطباعا بأن ثروات طائلة على مدى 30 عاما ضاعت نتيجة التهرب الضريبي قد تساوي حجم المديونية، ويأتي القانون الجديد ليفتح صفحة بيضاء مع الجميع. ثانيا : الفساد الإداري والمالي الذي يحول دون استيفاء المالية العامة لحد معقول من حقوقها من الضرائب والرسوم المختلفة. صحيح أن المالية العامة تفننت بعدد وأنواع الرسوم والضرائب إلا أن كفاءة التحصيل في أدنى مستوياتها، من تقدير رسوم وضرائب الأراضي مرورا بالجمارك وصولا الى ضريبة المبيعات، وثالثا : تنظيم سوق العمل حيث سمعنا الكثير عن فوضى سوق العمل والعمالة غير المرخصة، وحسب الأرقام الرسمية هناك نحو 44 % من القوى العاملة من العمالة الوافدة أكثر من نصفهم غير مرخص، في حين تخسر المالية العامة نحو 200 مليون رسوم ترخيص بالحد الأدنى، فإن تحويلات العمالة الوافدة للخارج باتت تزيد على مليار ونصف مليار دينار، في المقابل لم تتخذ أي خطوة جادة وحقيقية لتصويب هذه الأوضاع، ويرتبط بتنظيم سوق العمل تنظيم القطاع غير الرسمي أو القطاع غير المنظم الذي يحتل أكثر من 35 من الناتج الإجمالي الوطني وفي الأغلب لا يدفع رسوما ولا ضرائب ولا يوفر ضمانات قانونية لحماية متلقي الخدمات التي يقدمها. اليوم هناك 250 ألف صاحب عمل من منشآت متوسطة وصغيرة حسب تقديرات الضمان الاجتماعي منهم 6 % تحت مظلة الضمان، ترى كم منهم منظم رسميا ويدفع الرسوم وكيف يمكن أن يتم الوصول للفئة التي يستوجب أن تدفع الضرائب.
علينا أن نخلق توافقا وطنيا حول الإصلاحات الاقتصادية التي تنقل البلاد الى الاعتماد على الذات ؛ ولكن حتى يتحقق ذلك على الجانب الرسمي أن يقنعنا وأن يغادر دائرة الإنشاء وأن تكون الإصلاحات بالفعل تستجيب للأهداف المعلنة.
الغد - السبت 26/5/2018