لماذا التخوّف؟!
بالرغم من أنّ مصطلح "العقد الاجتماعي الجديد" ورد في كتاب التكليف السامي لحكومة د. عمر الرزاز، إلاّ أنّ "النخب الرسمية" ما تزال متخوّفة منه، وتشعر بالريبة من استخدامه، وكأنّه مؤامرة على هوية الدولة، لذلك تسعى إلى استبعاده من الخطاب الرسمي والسياسي مرّة أخرى!
أحسب أنّ هذه المخاوف غير مبررة البتّة، بل على النقيض من ذلك، فإنّ فكرة "العقد الاجتماعي الجديد" مهمة جداً اليوم لتجديد خطاب مؤسسات الدولة والمفاهيم الحاكمة لها، فإذا كنّا بحاجة -فعلاً- لثورة إدارية بيضاء من جهة، وتجسير العلاقة المنهارة بين المؤسسات السياسية والمواطنين من جهة ثانية، وإعادة ترسيم الإطار الناظم للعلاقة بين الدولة والمواطن، بصورة مغايرة لما كان سائداً خلال العقود الأخيرة، من جهةٍ ثالثة، فكل ذلك يحتاج إلى "نظرية" جديدة للدولة، تعطيها القدرة على التكيف والتطوّر مع المتغيرات الاقتصادية-الاجتماعية والسياسية والثقافية المتسارعة.
رافضو مفهوم "العقد الاجتماعي" أكثر من طرف، ولديهم أكثر من حجّة، أكثرها صلابة أنّ هنالك دستورا هو بمثابة العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن، وهذا صحيح، لكن الدستور، الذي يحدد الواجبات والحقوق القانونية والدستورية، يحتاج إلى بيان توضيحي يملأ الفراغ الموجود بين السطور، ويترجم عملياً مبادئه من خلال لغة واضحة وعملية مرتبطة بالسياسات، وهو ما يمثّله العقد الاجتماعي أو أي مصطلح آخر يمكن أن يحلّ محله.
ما هي هوية الدولة؟! هل هي دولة تقوم على سياسات الولاء والاسترضاء والتوظيف أم دولة مواطنة وحكم القانون والدستورية والكفاءة؟ هذا سؤال يحدّده إطار آخر مكمّل للدستور، وهو العقد الاجتماعي. خلال العقود الماضية حدّدت العلاقة الرعوية (التي تقوم على أن تكون الدولة هي المشغّل الأساسي، المنفق الأكبر) سمات عديدة للمعادلات السياسية القائمة، وأسهمت تطورات تاريخية في ترسيم أنماط من العلاقة بين الدولة والمجتمع، مثّلت جميعاً الإطار العام الذي يفسّر السلوك السياسي للدولة والنخب والمواطنين.
اليوم هذه "المعادلات" لم تعد قادرة على الصمود والاستمرار، اقتصادياً انتهت العلاقة الرعوية مع التحولات الجوهرية في سياسات الموازنة العامة، ومع نمو طبقة وسطى داخل القطاعين العام والخاص لها مطالب سياسية واجتماعية واقتصادية مغايرة للواقع الموجود، ومع رفع الدولة رسمياً شعار "الاعتماد على الذات"، والتشغيل لا التوظيف، والإصلاح الإداري...الخ، مثل هذه العناوين والشعارات تتناقض تماماً مع المعادلة التي شكّلت إطار العقود الماضية، وتدفع باتجاه "إطار عام" جديد.
فوق هذا وذاك، فإنّ المعادلات القديمة والخطاب الرسمي والنخب السياسية التقليدية أصبحت جميعاً خارج إطار التحولات والتطورات والسياسات الجديدة، ما يعني أنّ التجديد والتغيير أصبحا ضرورة، وهو ما يدفع إلى تصوّر (- نظرية/ عقد؛ أيّاً كانت التسمية) جديد مستقبلي، وإعادة تعريف للعلاقة بين المواطن والدولة، ودور الدولة السياسي والاقتصادي، والمفاهيم والمبادئ التي من المفترض أن تشكّل الدليل العملي للأردن مستقبلاً وللأجيال المقبلة.
هل هنالك تخوّفات مشروعة؟ طبعاً. وهل هنالك محدّدات للتصوّر الجديد؟ بالتأكيد. هي أمور يمكن استبطانها ومراعاتها في صياغة نظرية "الأردن الجديد"، لكن الخشية، مجرّد الخشية، من طرح الموضوع، والتفكير في رؤية للمستقبل متكاملة هو تخوّف مرضي، حالة من الوسواس المؤامراتي، التي تدفع بالدولة لتكون متأخرة كثيراً في إدراك المتغيرات وشروطها عن المجتمع، كما حدث في الاحتجاجات الأخيرة.
الغد - الاربعاء 20/6/2018