«أوسلو» في طبعة جديدة أكثر رداءة وانحطاطاً
لسنوات طويلة خلت، لم يخل لقاء فلسطيني شعبي أو فصائلي (معارض) من دعوة لإلغاء اتفاق أوسلو ومفاعيله، أو أقله تعطيل العمل به والتحرر من التزاماتها المكبّلة ... حماس، على الدوام كانت من أبرز مؤيدي هذا التوجه، فلا يكاد يصدر عنها بيان أو موقف، من دون أن يستبطن دعوة كهذه.
لكن بدل إلغاء هذا الاتفاق، والتحرر من مفاعليه في الضفة الغربية، ومن بينها «السلطة» ذاتها، و»عقيدة التنسيق الأمني» المثيرة للجدل والانقسام، نرى «اتفاق أوسلو 2» يطل برأسه من غزة هذه المرة، وبمشاركة نشطة من حركة حماس، التي تعد الفريق الفلسطيني الوحيد المشارك في مفاوضاته، والمتعهد بالتزاماته، و»المستفيد» استتباعاً من نتائجه، أقله لجهة إبقاء سلطة الأمر الواقع، و»تمكين» الحركة في القطاع، بأي ثمن، وأياً كانت النتائج.
القطاع يعيش على وقع العمليات الإسرائيلية البربرية ضد أهله وناسه، وعلى خط متواصل، تتواصل مسيرات العودة التي يدفع الغزيّون أثمانها الباهظة من دون أو ملل، من دون تردد أو تلكوء ... لكن ما يحاك للقطاع، على هذه النار الحارة جداً، ومن خلاله للقضية الوطنية للشعب الفلسطينية، أبعد من مجرد «معالجة إنسانية»، وأخطر من مجرد تخفيف الحصار المضروب عليه منذ أزيد من عقد من الزمان.
والحقيقة أن الشعب الفلسطيني بعامة، والغزيين بخاصة، يستحقون بعد شلال الدم الذي لم يتوقف عن التدفق، بعضاً من المكاشفة والشفافية، من قبل سلطة الأمر في غزة، حماس على وجه التحديد، أقله للإجابة على أسئلة من نوع: هل يستحق الاتفاق الجديد كل هذه التضحيات؟ ... هل يستحق الاتفاق «تجيير» مسيرات العودة الكبرى وحرفها عن هدفها المعلن الرئيس: العودة، والهدف المعلن الثاني: رفع الحصار، إلى هدف فئوي – أناني: تمكين حماس وإبقاء سيطرتها وسطوتها على القطاع؟
أما كان بإمكان الفلسطينيين الحصول على اتفاق أفضل من ذاك الذي أبرمته حماس أو تشارف على إبرامه مع إسرائيل، لو أنها قررت تقديم تنازلاتها لشعبها وممثله الشرعي الوحيد والسلطة الفلسطينية، بدل أن تقدمها للاحتلال وسلطاته؟ ... أما كان بالإمكان تفادي وتعطيل كل «الأفخاخ» التي يتضمنها الاتفاق، لو أن الفلسطينيين ذهبوا للمفاوضات موحدين، تحت راية المنظمة، بدل أن تنفرد حماس، بالتوقيع على اتفاقات ذات طبيعة «سيادية» مكتفية بوضع الفصائل بصورة ما جرى، ولكن بالمختصر غير المفيد، كما حصل في اجتماعات غزة التشاورية؟
ما الذي سيميز حماس بعد اليوم عن فتح، بعد أن قالت بحقها ما لم يقله مالك في الخمر؟ ... وبـ»أي عين» ستنتقد حماس «التنسيق الأمني» وهي التي ستتحول إلى حارسة حدود مع إسرائيل، سهراً على التهدئة ... وبـ»أي عين» ستنتفد حماس تنازلات فتح في أوسلو، وهي التي ارتضت ترتيبات أكثر سوءاً، من نوع نقل المطار والميناء إلى سيناء، والعودة إلى منظومة الرقابة والتحقق الدولية على المعابر، وبصورة أشد مما كان عليه الحال من قبل؟
وأي معنى سيتبقى للتعهدات المفرغة من كل مضمون من نوع: «لا دولة في غزة ولا دولة من دونها»، فيما «إمارة غزة»، تتشكل حجراً فوق حجر، يوماً إثر آخر ... والانقسام يتحول إلى انفصال، وسلطة الأمر الواقع، تدخل في صفقات وتبحث عن ضمانات ورعايات، من قبل إسرائيل وعواصم متورطة أو على حافة التورط مع «صفقة القرن»، ولطالما قدست «التنسيق الأمني» وناهضت مشاريع المقاومة المسلحة، ورفعت لواء «التهدئة المستدامة» وسعت في بناء البنية التحتية الصلبة لتكريسها، وشق طريق، ذي اتجاه واحد، صوبها؟
ألا تستشعر حماس خطورة ما قامت وتقوم به؟ ... ألا تستذكر ما قيل لها: أول الرقص حنجلة؟ ... ألم تجد ما هو مفيد في كل النصائح التي أسديت إليها بالجملة والمفرق، ومن أطراف صديقة وحليفة، بأن ابتعدوا عن سياسة الرقص على جميع الحبال، وحذار الرقص بخاصة على حافة صفقة القرن، والحذر الحذر من محاور تسعى في توريطها وإعادة النظر في صورتها ومكانتها ووظيفتها؟
هل تستحق السلطة، وفي غزة على نحو خاص، كل هذه التحولات؟ ... لقد قُدمت غزة على طبق من فضة للراحل ياسر عرفات، ورفضها من دون أن يضمن للمنظمة موطئ قدم في الضفة الغربية، فكانت معادلة «غزة وأريحا أولاً»، وقالت حماس بحقه في حينه، قصائد هجاء لم تنقطع، فإذا بها اليوم، تفعل شيئاً فرياً، لم تقبله فتح في أسوأ مراحل انحدارها وتراجعها؟
لن تنفع الشعاراتية الفارغة حركة حماس، ولن تفيدها جملها «الثورية/ الجهادية» ... لقد «شاهدنا هذا الفيلم» من قبل، وكانت نتائجه كارثية، وها نحن مكرهون على مشاهدة الجزء الثاني منه، الأكثر رداءة وانحطاطاً.
الدستور - السبت 11/8/2018