البصرة في زمن عتمة الديمقراطية
تحمل أحداث البصرة المستمرة منذ أيام معاني سياسية واستراتيجية خطيرة عدة تعيد السؤال حول مستقبل النموذج السياسي العراقي على الرغم من أن هذه الأحداث ليست الأولى من نوعها، ومعاني أخرى تتجاوز حدود العراق الى المنطقة، في الوقت الذي باتت فيه بعض القراءات تتلفت في كل الاتجاهات وتتساءل هل نحن أمام موجة جديدة من التحولات العربية (الربيع العربي)، الغضب العراقي الجنوبي أسفر عن 10 ضحايا ومئات الجرحى من المواطنين وقوات الأمن خلال أقل من خمسة أيام، بعد أن طال العنف الجماعي حرق وتخريب عشرات المؤسسات الحكومية ومقرات الأحزاب، بما فيها مكاتب الحشد الشعبي. ورغم فرض حظر التجول ثم رفع الحظر وجلسات طارئة للبرلمان، فقد استمر العنف الشعبي الذي لا يستثني أحدا، وهو مفتوح على احتمالات متعددة، أبرزها تعثر تشكيل الحكومة العراقية الجديدة.
الغضب العراقي هذه المرة لم يكن على خلفيات صراع سياسي ولا طائفي ولا على خلفية تقاسم المناصب السياسية والمحاصصة، بل على خلفية رداءة الخدمات العامة وتداعي البنية التحتية وانقطاع الكهرباء والفساد في أكثر المحافظات ثروة وموارد، بل تعد البصرة آخر بقعة في الأرض سوف ينضب منها النفط، فهناك غضب عراقي لا يتوقف أخذ في السنوات الأخيرة يتحول كيفيا في رفض النموذج السياسي القائم وفي رفض الأحزاب والهيئات الرسمية والسياسية الى جانب رفض التدخل الخارجي، وفي المقدمة التدخل الإيراني التقليدي، وتحديدا في محافظات الجنوب ذات الطابع الشيعي.
تأتي هذه الأحداث وسط ظروف عراقية داخلية حاسمة في مقدمتها تشكيل الحكومة العراقية؛ حيث تذهب بعض الاتجاهات الى أن إيران هي من أسهمت بشكل غير مباشر في إشعال هذه الاحتجاجات من خلال فرض المزيد من التضييق على العراقيين، كما حدث في أزمة الكهرباء ثم في تصاعد نسب الملوحة في شط العرب بالبصرة، بسبب إقدام إيران على ضخّ مياه مالحة إلى الجانب العراقي؛ حيث يعاني العراق من أزمة جفاف أدت إلى نزاعات عشائرية جنوبا. وفي ضوء ذلك، يفسر الغضب الشعبي من إيران وحلفائها وما تبعه من حرق لمقر القنصلية الإيرانية ومكاتب حزب الدعوة والحشد الشعبي.
اللافت للانتباه أن أزمة مثل الكهرباء أو المياه التي تعد خدمات استراتيجية لا تقبل التأجيل ولا الخضوع للعبة السياسية إلا أنها خضعت بالفعل ومنذ أكثر من عقد ونصف العقد فشل النظام السياسي في إيجاد الحلول لها؛ حيث تشكل أزمة الكهرباء في العراق واحدة من المعضلات الكبرى المحيرة المرتبطة بحاجات الناس الأساسية، والتي تدفعهم بين وقت وآخر للخروج إلى الشوارع والتعبير بالعنف عن مطالبهم، بعدما أصبحت أولويات المواطن العراقي تدور حول الأمن والكهرباء والمياه والعمل، في بلد يعد من أغنى بلدان العالم في الثروات، ما يطرح السؤال كيف تحول السياسة دولا قوية الى كيانات هشة لا تقوى على سد الحاجات الأساسية لمجتمعاتها في أول وثاني انتخابات تشريعية في العراق الجديد، فرزت الأصوات في معظم نواحي بغداد على العتمة. وكأننا أمام وصفة للديمقراطية السوداء بامتياز. فالناس الذين يخرجون غضبا اليوم على النظام السياسي والأحزاب والنخب، يؤكدون مرة أخرى أن سيادة القانون على الجميع في لحظة تاريخية في مسار بناء الدولة أهم من الانتخابات الشكلية والبرلمانات، وأن محاربة الفساد واجتثاثه أهم من الأحزاب؛ وهذه النتيجة هي ما بات يرددها آباء الديمقراطية الغربية ومؤسساتها التي تحاول الإجابة عن سؤال، لماذا فشلت تجارب الانتقال الديمقراطي في جنوب العالم؟
الغد - الاحد 9/9/2018