الدولة والرصيد الاجتماعي
علينا أن نتصور؛ لو كانت الدولة وفقت في بناء نموذج مقنع وكفء للامركزية ومنحت مجالس المحافظات صلاحيات حقيقية وفوضتها بمهام في الرقابة والمساءلة، لو تحقق هذا، ألم يكن من الممكن أن يقلل من حالة الاحتقان ورفض الحوار التي تسود المجتمعات المحلية في المحافظات حول مشروع قانون الضريبة الجديد. أو على أقل تقدير كان من الممكن أن تجد الحكومة جهة تمثيلية منتخبة يمكن أن تمارس دور وكيل المجتمع وتسهم في تجسير الفجوة والاتفاق على مبدأ الحوار على أقل تقدير، والتخفيف من حالة انغلاق الأفق التي نشهدها حول مشروع قانون الضريبة الجديد.
عبر نحو ثلاثة عقود تمت عمليات تفكيك واسعة وتمت عمليات هدم ولم يتم في المقابل اعادة تركيب او بناء بالمنظورين الاجتماعي – السياسي والاقتصادي – الاجتماعي للنخب الوطنية، وابسط مثال على ذلك بناء نخب وطنية محلية ممثلة للناس ومقنعة لهم وليس نخبا ذيلية للمؤسسات أو لكبار رجال الدولة المتقاعدين، لقد تمت عملية طويلة لتفريغ المحافظات من نخبها ولم يفتح المجال لعملية إحلال جديدة لنخب مقنعة للناس يمكن الوثوق بها وأخطر ما في هذا التحول هو تهشيم الرصيد الاجتماعي للدولة.
شكلت اللامركزية فرصة كبيرة للدولة لسد هذا الفراغ، ولكن للأسف ساهم الشكل والمضمون المشوهان للامركزية سواء في القانون أو في الممارسة في ضياع هذه الفرصة، فلقد حصر القانون والممارسة مجالس المحافظات بأدوار شكلية واستشارية، حيث لا يوجد دور رقابي حقيقي على المؤسسات الحكومية التنفيذية ولا تملك هذه المجالس الحق في المساءلة، ما أفقدها القوة المجتمعية الفعلية، وجعلها في رؤية المجتمعات المحلية إضافة شكلية لا أكثر، ولا يحسب حسابها وبالتالي فقدت الدولة فرصة كبيرة في إعادة بناء صف جديد من النخب والأطر المحلية التي يمكن أن تشكل مرجعية اجتماعية موثوق بها ويحسب حسابها ولها وزنها الاجتماعي المحلي، وهو ما يعد رصيدا للدولة.
لقد ذهب الخطاب الرسمي الأردني في الترويج للامركزية في عكس عقارب الزمن حينما لخص مهمة مجالس المحافظات بأنها مجالس للخدمات المحلية ودورها ينحصر في تحديد الأولويات التنموية، بينما ستتفرغ المجالس النيابية الوطنية للسياسة والمساءلة، وهو ما يعني عمليا إنكارا للسياسة المحلية والاكتفاء بالإدارة المحلية أي تفريغ المجتمعات المحلية من فرصة ممارسة السياسة المحلية وضعف في التمييز بين السياسة والسياسات العامة.
بالفعل جرت انتخابات مجالس المحافظات على الأسس العشائرية والجهوية المحلية، بمعنى عملت الماكنة الرسمية على ترسيخ الأمر الواقع في إعادة إنتاج أنماط التصعيد والانتخاب التقليدي، ولم يجر تهيئة بيئة محلية لتنافسية قائمة على رؤى جديدة للسياسة المحلية وربطها بالسياسة الوطنية، ولكن حتى النخب المحلية التي أفرزتها هذه المجالس لم تختبر ولم يتم تمكينها كي تصبح ممثلة بالفعل لهذه المجتمعات.
اللامركزية ليست مجرد وجود مجلس في كل محافظة، مع مجموعة صلاحيات قد تكون محدودة؛ وليست مجرد مجالس محلية أو برلمان محلي وحكومة محلية؛ وإنما هي انتقال اجتماعي سياسي، يؤسس لإعادة إنتاج المجتمعات المحلية في المحافظات، ضمن مصفوفة كبيرة من متطلبات التغيير التي تقود إلى إعادة التمأسس لهذه المجتمعات على قيم المشاركة والمسؤولية، وبالتالي الإنتاجية والتنافسية، وفي نهاية اليوم تحقيق تغيير نوعية الحياة للأفراد والأسر. اللامركزية تعني تحولا إداريا وسياسيا واجتماعيا، يقرب الناس من الشؤون العامة ويدمجهم أكثر في الدولة، ويزيد بالفعل من قدرتهم على تحمل مسؤولية مصالحهم، حينما تتحول المصلحة العامة إلى مجموع مصالح الناس، ورغم كل التشوهات في هذه التجربة لم تفت الفرصة بعد!
الغد - الاثنين 17/9/2018