الحرية بين العبث والمراهقة الفكرية
لقد مر ما يزيد على 1440 عاما من بروز الهوية الايمانية الجديدة للمجتمعات العربية وما حولها ببعثة النبي العربي ( محمد ) صلى الله عليه وسلم عندما تم توحيد العرب أولاً على رسالة الايمان بالله الواحد الأحد التي جاءت مكملة لرسالات الأنبياء السابقين ومتممة لجهودهم في توحيد البشرية تحت مظلة مرجعية قيمة نبيلة تتمحور حول دور الإنسان المركزي الاصلاحي في الكون المنبثق من مفهوم الخلافة في الأرض والعناية بالمخلوقات والموجودات جميعا ضمن منظومة متكاملة تفسر الأحداث وتجيب على اسئلة العقل المحيرة الكبرى المتعلقة بالنشأة والمصير والغاية والمهمة والمسيرة البشرية الممتدة عبر الزمن من أجل اطلاق العنان للعقل الإنساني في الابداع فيما يحقق النهوض البشري والرفاه الإنساني، وقد تم فعلا بناء امة ذات رسالة وحضارة انسانية شامخة قابلة للاستمرار والصعود .
عبر هذه المرحلة الطويلة والمتعرجة ثارت حوارات ونقاشات وجدالات عقائدية وعلمية متعددة ومختلفة الجوانب والابعاد في كل صغيرة وكبيرة في كل المراحل مع التفاوت والتباين في العمق بين فترة واخرى ، وقد اسهم في هذه الجولات الحوارية كل اتباع الاديان والفلسفات والافكار في كل جوانب الأرض ، وتم تدوين هذه الاراء والردود عليها باسهاب وأصبح التراث الإنساني مترعاً بالاقاويل من كل حدب وصوب ، وتولدت جراء ذلك علوم كثيرة وعديدة مختصة في هذا المجال من مثل علوم المنطق والكلام والعقائد ونشأت حول هذه الاقاويل طوائف ومذاهب وفرق لا عد لها ولا حصر وصنفت المصنفات والكتب ،وبعد كل هذه الجولات نشأت عدة دول وامبراطوريات توارثت هذه الاراء والاعتقادات وطورتها وشرحتها وكتبت حولها الهوامش والتوضيحات والحواشي وظهرت شخصيات كثيرة وعديدة في كل فن وعلى رأس كل معتقد وفي نهاية المطاف استقرت الأمة على معتقد التوحيد الراسخ وفلسفة الايمان على الجملة برضى جماهير الأمة وتشكلت حولها الأعراف والتقاليد والقيم التي ما زالت محلاً للحوار والنقاش والتعديل والحذف والاضافة والتحسين والتطوير.
تقتضي الحرية الفكرية والعقدية والدينية التي تحظى بالتوافق : أن كل انسان طائره في عنقه ، وهو حر في ما يعتقد ويدين ، ولا سلطة تقهره على ذلك باتفاق العلماء والفقهاء والعقلاء والحكماء ، وأصبح ذلك راسخاً عميقاً في وجدان الأمة وعقلها الجمعي ، وبني ذلك على هوية جامعة تجمع شتات الأمة وتلم شعث عقلها على قاعدة الايمان ، فليس من المعقول بعد كل ذلك ان من قرأ كتابا من كتب الأقدمين او المحدثين وأصابته لوثة الالحاد أن يعمد إلى ممارسة حريته في جمع المال واستغلال مراكز التمويل التي تحاول جاهده إثارة النعرات بين عقول الناشئة وإعادة بعثرة الهويات ومنظومة القيم والبدء من جديد في نسخ هوية جديدة مستنسخة عن هوية غربية أو شرقية أو احياء فكرة قديمة وإعادة المسألة الجدلية بين طوائف الأمة من جديد حول فكرة وجود الله وان نعيدها جذعة.
ما هي الاولوية التي ينبغي أن ينشغل فيها العقل العربي على الجملة ؟ وما هي المهارات التي يجب أن يتوجه اليها الأجيال والعقول الشبابية في أمة تسلط عليها الفاسدون وعطلوا مسيرتها النهضوية ،وبددوا مقدراتها وأهدروا أموالها في سراب التقليد والتبعية والاستغراق في محاولة صرف الأجيال عن هويتهم وتراثهم الحضاري وثقافتهم الجمعية ، والذهاب بهم نحو التيه والضياع الفكري والثقافي والعقائدي والمذهبي ، والدخول من جديد في جدل سفسطائي فارغ واجترار حوارات عقيمة بالية مسبوقة تاريخا وحاضرا ، واعادة مواضيع قتلت بحثا واستقصاء عبر مراحل التاريخ ،واحداث ضجة تعج بالمراهقة الالحادية والصخب المستنسخ بلا جدوى .
كان ينبغي أن تصرف أموال الصناديق السيادية على إعادة تأهيل الشباب الظامىء للعلم والمعرفة والتكنولوجيا والانجاز من أجل ردم الفجوة الحضارية بيننا وبين الأمم السابقة عبر بناء المنظومة السياسية والاقتصادية التي تتوافق مع مقتضيات الحرية الحقيقية التي تدفع الجموع نحو البناء والوحدة واستجماع أوراق القوة ويجب الحذر من صرف الاموال على إعادة الأمة واحياء معارك والحوارات العقيمة التي تزيد الانقسام وتثير شرارة النزاع بين مكونات المجتمع المهمشة المخترقة .
الدستور - الاحد 11-11-2018