«التهدئة» و«الردع»... بين تجربتين
المفردتان: «التهدئة» و»الردع»، ربما كانتا الأكثر شيوعاً واستخداماً في الحديث عن غزة وحولها ... في هذا السياق، يجري استدعاء التجربة اللبنانية كمجال للمقارنة والقياس ... فحزب الله اللبناني، أبرم وانخرط في تجارب تهدئة متتالية مع الاحتلال الإسرائيلية، عبر وسطاء مختلفين ... والحزب ذاته، نجح إلى حد كبير في بناء منظومة ردعية، يحسب لها ألف حساب إسرائيلياً.
قبل التحرير، تحرير جنوب لبنان، انخرط الحزب في تفاهمات تهدئة، هدفت أساساً إلى «تحييد» المدنيين على جانبي الحدود، لعل أشهرها «تفاهمات نيسان» 1996 بعد «عناقيد الغضب» ومجزرة قانا ... بعد التحرير صمتت المدافع على جبهة الجنوب لأزيد من ست سنوات، نجح خلالها الحزب في بناء قاعدة عسكرية قوية ... ومنذ حرب تموز 2006 وحتى اليوم، تعيش الحدود اللبنانية الإسرائيلية حالة هدوء مستمرة، لم يعكر صفوها سوى عمليات محدودة من «الفعل ورد الفعل» ... لكن الحزب نجح خلال سنوات التهدئة الاثنتي عشرة،في مضاعفة قوته النارية، عدداً ودقة وقدرة على التدمير، وتوفر على منظومة صاروخية متعددة الأنواع والمديات، باتت تشكل هاجساً لنظرية الأمن الإسرائيلية.
إسرائيل أرادت التهدئة مع الحزب، بالنظر لقدرته على المساس بـ»جبهتها» الداخلية ... وأمكن عبر اتفاقات وتفاهمات غير رسمية، ولاحقاً عبر قرار لمجلس الأمن، ترسيخ معادلة «الهدوء مقابل الهدوء» ... لبنان لا يريد شيئاً من إسرائيل غير وقف اعتداءاتها، وإسرائيل لم تزرع مستوطنة واحدة فوق الأرض اللبنانية... هنا، وهنا بالذات، يمكن فهم «الأثر الإيجابي» لمحاولة استرداد التهدئة والهدوء... هنا الزمن، يمكن أن يلعب لصالح مختلف الأطراف، شريطة أن تستنفذه في الاستعداد وبناء عناصر القوة والاقتدار، وهذا ما فعلته وتفعله، إسرائيل والحزب على حد سواء.
في الحالة الفلسطينية، غزة على وجه الخصوص، يبدو الأمر مغايراً، والسياق مختلفاً ... جربت حماس التهدئة والهدوء، وسعت في تحييد المدنيين، وتسعى في تكريس معادلة «الهدوء مقابل الهدوء ... لكن غزة تحتاج إلى ما هو أكثر من مجرد الهدوء، تحتاج للغذاء والماء والدواء والكهرباء وفرص العمل والعيش الكريم ... وجميعها بفعل الحصار، بيد إسرائيل ... هنا لا تبدو أن المعادلة متكافئة كما كانت عليه في لبنان ... هنا لإسرائيل عنصر تفوق، لم تكن تتمتع به زمن احتلال للبنان.
ثم أن مرور الزمن في الحالة الفلسطينية، لا يخدم الطرفين على نحو منصف... غزة بالنسبة لإسرائيل تشبه جنوب لبنان ... الحرب عليها لكن أعينها شاخصة على الضفة الغربية ... مرور الوقت فلسطينياً يعني مزيداً من الاستيطان وألوف جديدة من المستوطنين المنزرعين على صدور الفلسطينيين... وإسرائيل تسعى في كسب المزيد من الوقت لتكريس المزيد من «الحقائق المفروضة من جانب واحد» ... التهدئة في حالة غزة، مكلفة جداً، مع أنها حاجة وضرورة إنسانية بالغة الأهمية، وما لم ترتبط – التهدئة – باستراتيجية وطنية فلسطينية أعمق وأشمل لإدامة المقاومة ورفع كلفة الاحتلال، فإن «تهدئة بلا استراتيجية - في السياق الفلسطيني، قد تصب القمح صافياً في طاحونة الاستيطان الإسرائيلي.
و»الردع»، كما التهدئة، إن لم يرتبط باستراتيجية شاملة للمقاومة، سيساهم في إعطاء إسرائيل الوقت الذي تحتاجه لابتلاع الأرض والحقوق الفلسطينية... فقد يمكن للردع أن يمنع إسرائيل من اجتياح غزة أو استمرار الاعتداءات عليها، بيد أنه لن ينجي الضفة والقدس من أنياب جرافات الاستيطان الحادة، ولن يحول دون استمرار إسرائيل في قضم الحقوق الفلسطينية.
لا يمتلك الفلسطينيون «ترف» تبديد الوقت، أو السماح بتقطيعه، سواء تحت شعار «التهدئة» أو بذريعة «الردع»، مع أن كثيرين يجادلون بتعذر الوصول فلسطينياً إلى معادلة الردع ... الأمر مختلف عن لبنان، والقياس بين التجربتين يجب أن يكون مع الفارق.
الدستور - الثلاثاء 20-11-2018