تحوّلات المخيم الفلسطيني..!
تعرضُ الدراما التلفزيونية الملحمية، "التغريبة الفلسطينية"، صورة نادرة لنشوء مخيمات اللاجئين الفلسطينيين الأولى بُعيد نكبة 1948. وهو عرضٌ مفيدٌ قطعاً من الناحية المعرفية للأجيال الجديدة التي لم تشاهد امتدادات الخيام التي انتصبت في العراء فجأة مثل كائنات أسطورية، ولم تعايِش ما رافقها من انفعالات. وثمة المتبقون ممن عايشوا تحولات المخيم الفلسطيني، من الخيمة، إلى "البراكيّة" –الغرفة الصغيرة المصنوعة من الاسبستوس- ثم غرفة الطوب بسقف الزينكو، ثم البيوت الإسمنتية المتلاصقة المكتظة، والطوابق.
لكن ما اختبره المهّجرون المصدومون في بدايات المخيم، كان أكثر من مجرد المشهد البصري والحيّز. ولا عدد المفارقات التي انطوى عليها هذا التكوين الطارئ المرتجل الملتف على الفقدان والتيه. ومن هذه المفارقات، أن اللاجئين المشردين حديثاً من بيوتهم، سعوا بعد الصدمة الأولى إلى تحسين أوضاع المخيمات لجعل إمكانية الحياة أيسر. لكن تطوير المخيم انطوى في الوقت نفسه على فكرة الانتقال به من كائن مؤقت بالحدود الدنيا من الأشياء إلى شيء أكثر ديمومة وثباتاً. وعنى ذلك المزيد من البعد عن الوطن والقبول بوضع اللاجئ لفترة طويلة. وصنع ذلك مفارقة في الموقف، حيث يغضب أهل المخيم من الذين يحجمون عن تقديم العون لتحسين المخيم، ويشكّون أيضاً في الذي يقدم العون، على اعتبار أنه يساعد في تأبيد الوضع الراهن.
المفارقة في المخيم أن كل مرحلة من مراحل تطوره التكويني، كانت تعني هذا بالضبط: الانتقال من مضامين الخيمة، بما تعنيه من عدم الاستقرار والإقامة الطارئة المؤقتة، إلى "البراكية" إلى الطوب والزينكو، إلى البيت الإسمنتي المعقود، مع الانتقال إلى الثبات والديمومة في كل طَور. وإذا كان البناء الاسمنتي المسقوف أفضل – ظرفياً- للفلسطيني من الخيمة والبراكية، فإنه يعني ترسيخ اللجوء والمنفى كواقع، وتأزيم الفلسطيني وجودياً.
الذين شاهدوا المخيم وهو يذوب في أحياء المدن المجاورة -ولو أنه فقير وعشوائي- لا بُد أنهم لاحظوا التحولات التي رافقت هذه الحركة "التقدمية" نحو الاستقرار المكاني. كان المخيم الأول ذو الخيمة المؤقتة منعكساً في الشخصية الفلسطينية غير المستقرة هي أيضاً، التي ما تعتقد بأن هذا الوضع مؤقت مثل الخيمة نفسها، وما يزال بالإمكان –بل ويجب- تغييره وتصحيح الخطأ الذي حدث للتوّ. وكان الطريق إلى استعادة شيء من التوازن هو الالتحاق بالثورة الفلسطينية وحمل السلاح. ورافقه شكل آخر هو العناية الفائقة بالتعليم، كطريق ينبغي أن يفضي إلى الهجرة من الخيمة إلى بيت حجري.
تتحدث "أم سعد"، في رواية غسان كنفاني التي تحمل نفس الاسم، عن ابنها الذي التحق بالثورة: "وصمتت لحظة، ثم استدارت وواجهتني: أتعتقد أنه سينبسط لو ذهبت فزرتُه؟ أستطيع أن أوفر أجرة الطريق، وأذهب يومين إلى هناك. وتذكَّرت شيئاً، فأكملت: أتدري؟ أن الأطفال ذل! لو لم يكن لدي هذان الطفلان للحقت به. لسكنت معه هناك. خيام؟ خيمة عن خيمة تفرق! لعشت معهم، طبخت لهم طعامهم، خدمتهم بعيني. ولكن الأطفال ذل".
المعسكر كان خياماً أيضاً، لكنها ليست خياماً للسكن. كانت خيام المعسكر لوجستية فقط، للاستراحة بين نوبات التدريب وقبل الانطلاق إلى عملية عسكرية واشتباك. وهي لا تشبه فكرة العبث والتبطل واحتمال الديمومة التي في خيمة المخيم، وإنما هي في ذاتها مكان عمل جدي للتخلص من الخيام جملة وتفصيلاً. والفلسطيني فيها شيء مختلف: "كانوا يقولون الفلسطيني اللاجئ، صاروا يقولون الفلسطيني الفدائي". لكن المعسكرات أيضاً، تحولت مع الزمن من خيام، إلى ثكنات مبنية بالطوب، أو أكثر. وتحولت خيمة القيادة، التي ربما لم تكن تتميز عن جاراتها في المعسكر
– مثل خيام المخيم- إلى مقرات رئاسة، وحكومة، وقاعات استقبال ومراسيم ومراسم.
ما تزال المخيمات الفلسطينية تتشبث بأسمائها المشتقة من الخيمة بالتحديد –مع أنها لم تعد خياماً. وقد تبدل سكانها بتعاقب الأجيال، وانتقلت أفواج منهم في هجرة أخرى من المخيم إلى الشقق والبيوت الحجرية في المدن القريبة والبعيدة. في بعض الأحيان، يذكر سكان المخيم المنتقلون انتماءهم القديم إلى المخيم بحنين، ولو إلى شيء بائس في المُجمل. لكن الخيمة، بانطباعات الوضع المؤقت، كانت أقرب إلى احتمالات التغيير/ العودة. ومع ذلك، أياً كانت التحولات التي شهدها المخيم المكان، فإن الخيمة جزء بنيوي من الخبرة الفلسطينية غير المستقرة، الطارئة، وغير الطبيعية – طالما بقي اللجوء والنفي.
الغد - الأحد25 - 11-2018