بناء رأس المال البشري
في التفكير حول التحولات الاقتصادية والاجتماعية المصاحبة لـ"الموجة الثالثة" و "الثورة الصناعية الرابعة" ثمة قاعدتان بديهيتان تعملان؛ أولاهما أن التقنية تغير جوهريا في الأعمال والموارد، وبطبيعة الحال فإن المؤسسات تميل إلى الاستغناء أو التقليل من العمالة البشرية كلما أمكن للتقنية أن تؤدي ما يعمله البشر؛ ولا مجال لمواجهة هذه القاعدة إلا بقدر ما يمكن التصدي للمنخفضات الجوية ومحاولة إيقافها، والقاعدة الثانية أن أعمالا جديدة تنشأ في ظل التقنية الجديدة، وفي ذلك فإن الأمم (الدولة والمجتمعات والأسواق والأفراد) تعيد تشكيل ومراجعة مؤسساتها ومواردها باتجاه التحول للأعمال الجديدة، ومن البديهي أيضا أن التعليم هو المدخل الأساسي والرئيسي لاستيعاب هذه التحولات وبناء المعارف والمهارات الجديدة اللازمة للأسواق والأعمال الناشئة.
لقد نشأت المؤسسات التعليمية القائمة اليوم في الموجة الثانية أو الثورة الصناعية وهي تعكس المؤسسات والأعمال والأسواق التي تشكلت حول الصناعة في موجتها الثانية منذ القرن الثامن عشر، ويمكن ببساطة الملاحظة كيف أن الجامعات أنشأتها ثلاث مؤسسات أو روايات؛ أولاها المؤسسة الدينية، وثانيها النقابات المهنية والشركات الصناعية والتجارية والتي أنشأت تخصصات المهن والأعمال مثل الطب والهندسة والمحاماة والمحاسبة،... وثالثها: النخبة الاجتماعية التي طورت تخصصات الفنون والآداب والفلسفة، وكان واضحا بالطبع كيف تطورت وتفوقت العلوم البحتة والتكنولوجية، وتراجعت وتهمشت الدراسات الإنسانية والاجتماعية كما الفلسفة والآداب والفنون. ونواجه اليوم (كما العالم أيضا) تحديا أساسيا وخطيرا في تشكيل المؤسسات والاتجاهات التعليمية وفق تحديات وفرص المرحلة الجديدة في التقنية والأسواق والمؤسسات، وهي أن العمليات التعليمية التي تقودها الاتجاهات العلمية البحتة والتطبيقية تواجه سؤالا استراتيجيا عن معناها وجدواها، بل وتتجه إلى الأفول والتحول الجوهري، وتجر معها قاطرة التعليم إلى الخواء واللاجدوى! والتحدي الآخر هو أننا لم نتبين بعد آفاق المرحلة الجديدة، ولا نملك في واقع الحال للاستعداد لها واستيعابها سوى تطوير المهارات الإنسانية والمعرفية العامة، مثل الإبداع والتفكير النقدي والحرّ والفلسفة والفنون والآداب، وهي تخصصات ومعارف ضمرت كثيرا في بلادنا، بل وفقدت جمهورها وقواعدها الاجتماعية، والأسوأ من ذلك أن العمليات السريعة التي تجري اليوم لدعم الثقافة والفنون تزيدها خواء وفشلا لأسباب كثيرة قد أعود إليها في مقال مستقل.
فالإبداع والتفكير الحر والنقدي والآداب والفنون ليست مجرد مهارات فنية يمكن التدريب عليها، لكنها عمليات استيعاب طويلة وعميقة تنشئها منظومة راسخة ومتراكمة من التعليم والثقافة والسلوك.. وأخيرا المهارات والأداء. والفنون بعامة هي تعبير محسوس عن مشاعر وأفكار. والمشاهد يتذوق بصريا و أو سمعيا الفلسفة المنشئة لهذه الفنون. هكذا يجب ان تكون لدينا أولا حياة اجتماعية ثقافية وفكرية نعيشها ونتجادل بشأنها ثم نلتمسها في الموسيقى والفنون والشعر والقصة والعمارة والرقص والمسرح، وسوف يظل ما لدينا من ثقافة وفنون أسير هذه الحالة. لكن بالتأكيد فإن ما يبذله المشغولون بالإبداع هو جهود نبيلة ومقدرة. وتظل مسؤولية المؤسسات التعليمية والثقافية ان تنشئ قاعدة اجتماعية وجمهورا عاشقا ومتذوقا للفنون.
الغد - الاربعاء 5-12-2018