الفساد بين الحقيقة والواقع
نتحدث كثيرا عن الفساد وقد لا يخلو مجلس من الحديث في هذا الشأن وفي معظم الأحيان يصر الكل على أن الفساد مستشر في كل مكان وبأنه لا توجد محاسبة أبدا، فالفاسدون يسرحون ويمرحون ويمارسون فسادهم وإفسادهم تحت سمع وبصر كل المسؤولين.
قد يكون حديث الناس هذا صحيحا لكنه غير موثق ولا يستند إلى أي وقائع لأن الذي يريد أن يمارس الفساد يجد طرقا عديدة لهذه الممارسة ولا يمارسه أمام الناس ، فالذي يقبض رشوات مالية كبيرة من بعض أصحاب المصالح لا يقبضها في الشارع والذي يقبض عمولات على شراء أشياء معينة لا يقبضها أمام الناس والعطاء الذي يحال على شخص ما يحال بالطرق القانونية وبالأسعار التي تتفق عليها اللجنة أما ماذا يحدث في الخفاء فلا أحد يعرف عنه شيئا.
في دراسة أجريت على تسعة وستين ألف شخص في عدد من الدول من بينها أربع دول عربية وجه سؤال يقول : هل تعتقد بأن هناك فسادا فكانت نسبة الإجابة بنعم ثمانين بالمئة ولكن عندما وجه سؤال آخر يقول : هل دفعت أنت رشوة لأحد من الناس فكانت نسبة الذين أجابوا بنعم سبعة بالمئة فقط ، ثم وجه سؤال ثالث يقول : هل تعرف أنت أناسا قاموا بالرشوة فكانت نسبة الإجابة بنعم عشرين بالمئة فقط.
هذه الدراسة الجادة والمتخصصة والتي أجريت على عينة كبيرة في عدد من الدول أظهرت أن الفساد هو مجرد شائعة فقط ولكن هذه الشائعات لا تعني أنه لا يوجد فساد بل على العكس من ذلك فقد يكون الفساد مستشريا في بعض الدول خصوصا الدول الفقيرة والتي يعتبر دخل الفرد متدنيا فيها لكن لا توجد إثباتات مادية يعرفها الناس بشكل مباشر حتى بعض الذين حولوا للقضاء للإشتباه بأنهم كانوا يمارسون الفساد كانت النسبة الأكبر منهم تبرأ لأن الإثباتات المادية غير كافية أبدا.
في موضوع الفساد هناك شواهد يعتمد عليها الناس في إصدار أحكامهم وإتهام البعض بممارسة الفساد وهذه الشواهد قد تكون صحيحة ولها دلالات كأن يلاحظ الناس أن فلانا صاحب الراتب المحدود بدأت تظهر عليه علامات الثراء أو أن فلانا آخر إشترى بيتا مرتفع الثمن ودخله لا يسمح له بشراء مثل هذا البيت الكبير أو أن شخصا معروفا بوضعه المادي المتواضع أقام عرسا فخما لإبنه الذي تزوج أو إشترى سيارة من الأنواع الغالية وهذه الشواهد جميعها صحيحة لكن لا يستطيع أحد إثبات مصادر الدخل الأخرى التي لجأ إليها هؤلاء فيظلون يطلقون الإشاعات عنهم بدون أن تكون لديهم أية أدلة على أن هؤلاء يمارسون الفساد.
إذن الإشاعات لا تعني أن هناك دائما فساد، والفساد الحقيقي يحتاج دائما إلى إثباتات وأدلة.
الدستور - الاربعاء 26-12-2018