الشائعات وأسواقها الرائجة
تهرب من شائعة في ملف «الفساد» الاخير وما يدور على هامش عبارة الرئيس «للحديث بقية» من تنبؤات، فتطاردك شائعة اخرى في ملف الاسواق والاقتصاد، ثم شائعة ثالثة في ملف السياسة وصفقاتها القادمة، تبحث في قصة سربتها مصادر غير معروفة، فتصل الى قراءات غير مفهومة لروايات اخرى ابطالها مجهولون، واحداثها مسكونة بالهواجس.
هكذا دواليك تشعر انك في الدوامة ذاتها، ففي غياب المعلومات يمكن ان تفتش عن الحقائق في بازار الشائعات واسواقها الرائجة، ويمكن ان تشعر بالفزع من هذه التأويلات التي تقودك حتما الى الحيرة والتيه، وعندما تسأل عن اليقين السياسي تصطدم باسئلة كثيرة لا جواب لها، ولا تدري - بالطبع - اذا كانت المسألة لها علاقة بمخاضات الرحم العربي، في امكنة هنا واخرى هناك .
المشكلة ليست فقط في الهروب الى الشائعات وانما ايضا في الدخول الى عناوين وتفاصيل هامشية تغطي على القضايا الكبرى وتدرجها في خزانات التجميد او التغييب او التأجيل، خذ مثلا حين كان مشروع الاصلاح هو قضيتنا الكبرى في السنوات الماضية، كانت درجة اليقين السياسي في اعلى مستوياتها وكانت ماكنة الشائعات قد تعطلت امام جدل معلن حول ماهية المشروع وضروراته، وكانت محاولات التشكيك بالنوايا والافعال تضغط باتجاه دفع عجلة قطار الاصلاح، لكن للاسف اختلفت الصورة بعد ذلك، فقد دخل على الخط هواة خلط الاوراق وتشتيت الافكار، واحتشد لمواجهة هذا اليقين مجموعات تريد ان تستثمر في الشائعات لكي تحجب الاصلاح الذي يفضي بالضرورة الى كشف الحقائق، ونشأت تحالفات طارئة كان هدفها الوحيد اغراق الناس في لجة الجدل حول فزاعات قديمة واخرى جديدة، لتخويفهم من الدوران حول الفكرة، واشغالهم بالدوران حول صراع الاشخاص والنخب، وتسليتهم بالمقاربات المغشوشة، تلك التي دأبت على تكرار انه ما كان بالامكان افضل مما كان.
لا يكفي لتبديد ظاهرة الشائعات ان نلعن من يروجها، او ان نضع المسؤولية على من يصدقها، او ان نتفنن في نفيها وتكذيبها، وانما لا بد من اغلاق المكامن التي خرجت منها، والاغلاق هنا يقتضي بالضرورة فتح ابواب المعلومة الصحيحة لكي تصل الى الناس، وسرعة معالجة الملفات التي يتطاير منها دخان الاشاعة، ومواجهة مصائد التعطيل التي تسعى لتشكيك الناس بما يؤمنون به ويريدونه، كما يقتضي ايضا عدم الهروب من استحقاقات المرحلة بما تتضمنه من مشاركة في القرار، وانتصار لحرية التعبير، واستعادة للثقة التي تراجعت بين الناس والمسؤول، وخروج من دائرة التباطؤ في اتخاذ القرارات ومعالجة المشكلات الى دائرة السرعة والحسم، وعدم الرهان على الوقت واللعب على اوهام الاختلاف.
بصراحة، لا نكاد نفهم ما يحدث لنا وما يجري حولنا، واذا كان غياب الفهم مشكلة في حد ذاته، فان افتقاد الرؤية مشكلة اخرى، كما ان التعامل بمنطق التذاكي والاستعلاء والاستهانة بعقول الناس جعلهم يمارسون نوعا من «البلادة» المتعمدة، ودفع البعض منهم الى الاحساس بالاحباط، وفسح المجال امام انتشار الشائعات المدمرة، وبالتالي فان اهم ما نحتاجه في هذه المرحلة هو العثور على «البوصلة» الوطنية وتحديد اتجاهها للخروج من التيه واعادة الثقة للناس والامل لهم ايضا.
حسنا تريدون ان تسدوا ابواب الاشاعات الحل بسيط : طمئنوا الناس على جديتكم في معالجة الملفات واخرجوا من اطار الحديث عن الاصلاح والمساءلة والمكافحة الى اطار الافعال التي تراها العيون وتصدقها العقول، وعندها فان الرسائل ستصل بكل وضوح وستجد من يفك شيفرتها على ارضية الحقائق الدامغة لا الاشاعات المغرضة!
تريدون ان نخرج الى اليقين السياسي اذن: افتحوا لواقطكم لاستقبال اصوات الناس وتساؤلاتهم، وافهموا رسائلهم، وبددوا ما وصلهم من هواجس بالمصارحة والمعلومة الصحيحة وبالثقة التي ما زالت غالية وعزيزة...!
الدستور - الاثنين -7-1-2019