«العيون الساهرة» و«الضمائر اليقظة»
تعكف الحكومة - بحسب ما قالته وزيرة الدولة لشؤون الاعلام، جمانة غنيمات - على إعداد استراتيجية إعلامية للارتقاء بمستوى ادوات الاعلام والاتصال الرسمي، ومع الاحترام والتقدير للزميلة التي تشاركنا في الهم الصحفي والاعلامي، فان الاهم من اشهار الاستراتيجية ( اية استراتيجية) هو ترجمتها عمليا والالتزام بها، فقد جربنا مع الحكومات السابقة العديد من المواثيق والخطط والاستراتيجيات التي ظلت حبرا على ورق.
اولا، لا بد ان اشير الى ان الدولة - اي دولة - تحتاج الى اعلام قوي وامين للدفاع حدودها السياسية والفكرية والاجتماعية، ومجالها العام، مثلما تحتاج الى جنود محترفين ومخلصين للدفاع عن حدودها ومجالها الجغرافي والامني، واذا كان مصطلح «العيون الساهرة « ينطبق تماما على الوظيفة الامنية، فان مصطلح «الضمائر اليقظة « والواعية ينطبق ايضا على الوظيفة الاعلامية، فأمانة الكلمة مثل امانة البندقية، ما دام ان قيم الدولة ومصالحها هي الحاضرة في المشهد، وما دام ان الجنود على اختلاف اسلحتهم حريصون على القيام بواجبهم الوطني والاخلاقي، سواء بمنطق الالتزام التام او بمنطق النقد والتنبيه .
الاعلام هنا ليس عصا الحكومات او جزرتها التي تستخدمها متى تشاء، وانما هو ضمير الدولة والمجتمع، واداؤه يفترض ان يقاس على المسطرة المهنية لا على المسطرة السياسية، كما ان دوره ليس تعبويا وانما دور تنويري، وبالتالي فان الاعلامي ليس مجرد «بوق « للهتاف ولا ممثلا لطرف رسمي او خاص، بقدر ما هو باحث عن الحقيقة، وصوت للناس، وممثل للهم العام .
اذا اتفقنا على ذلك، فان تحرير العلاقة بين الحكومة والاعلام لا يحتاج الى مجرد مقررات واجراءات بقدر ما يحتاج الى قيم ومبادىء تستقيم على أساسها طبيعة الشراكة بين الطرفين، واذا كانت الاستقلالية من اهم هذه القيم التي يطالب بها الاعلام، فان اعتمادها - من جانب الحكومة - يفترض ان يكون ارضية للتوافق على ما بعدها من اجراءات أو قرارات، والا تحولت هذه الاجراءات الى شروط من طرف واحد، مجحفة بحق الاعلام ومعيقة لتطوره وقدرته على خدمة مجتمعه، وخدمة الحكومة ايضا.
هذا، بالطبع يحتاج الى تفصيل، لكن يمكن ان نقول بعجالة ان العلاقة بين الحكومة - اي حكومة - وبين الاعلام لم تكن واضحة بما يكفل للاعلام - على الاقل - ان يمارس دوره بمهنية واستقلالية ونزاهة، صحيح ان ثمة تقصيرا من الاعلام في هذا الجانب، لكن الحكومات ايضا تتحمل جانبا كبيرا من المسؤولية عنه، فقد استطاعت - للاسف - ان تؤسس على مدى سنوات طويلة لعلاقة نفعية اضطرت الاعلام احيانا الى المجاملة وتغييب الحقائق وضغطت عليه في احيان أخرى للتراجع عن دوره الحقيقي، بمعنى ان الاعلام كان ضحية في علاقته مع حكومات لمعايير غير صحية قامت على الاغراء من جانب والتخويف من جانب آخر، مما أضر في النتيجة بموقع كل منهما وبدوره في خدمة الناس والمجتمع.
تحرير العلاقة بين الحكومة والاعلام من منطق « النفعية « والتوظيف ( لكي لا اقول السلطة الابوية ) يجب ان يتلازم مع تحرير آخر يتعلق - اولا - بالاستقلالية التامة، وثانيا - بالضغوط والايحاءات والمطالب الرسمية، وثالثا - باعتبار المؤسسات الاعلامية مؤسسات وطنية تحتاج الى الدعم على أساس مؤسسي لا فردي، وبموازين عادلة لا مزاجية، ورابعا - بتفعيل التشريعات التي تعطي الاعلام الحق في الرقابة والتعبير الحر والوصول الى المعلومة بدون معوقات.
الدستور = الثلاثاء 12-2-2019