صعود المجتمعات وسلطة القمع
التحولات في العالم تتجه الى صعود القوى والحركات الاجتماعية، في كل العالم هناك حركة اجتماعية هائلة القوة، تتغذى من الرصيد الشعبي الساخط على الحكومات، وتتفاعل عكسياً، مع أي طرح سلطوي بالرفض والتشكيك والريبة.
في أغلب المجتمعات النامية حيث لا أحزاب ولا تداول سلمي للسلطة، تشكل مخزون من القوة الفائضة التي كانت راكدة، وطفت على السطح بفعل فشل وعود التنمية، وضعف النخبة وتآكل القوى المؤسسية وضعف بنيانها.
خلال النصف الاول من القرن العشرين عربيا، استبدلت كثير من الأنظمة التقدمية خيار الديمقراطية بالوعود التحررية والوحدوية مقابل مطالب الشعوب بالحرية والديمقراطية.
في المقابل استبدلت كثير من الأنظمة التقليدية تلك المطالب الشعبية، بمقولة التنمية، وظل الخيار الديمقراطي بعيد المنال، وصار كل من يطالب بالحكم الديمقراطي متهما اما بالعمالة او تقويض الحكم. لذلك انتهت الحالة العربية إلى مزيد من التهميش والفقر والاستبداد.
لم يكن ايضا هناك بديل شعبي، وخرج الخيار الديمقراطي من الساحات والاحزاب، وانتهى الديمقراطيون اما بالسجون او الغربة. وساهمت تلك الحالة بمزيد من الفراغ، والضعف المؤسسي، وتوسع القطاع العام والتوظيف، وتكرست الحالة الريعية.
في النصف الثاني من القرن العشرين، حدث تطور مهم في الحركات الشعبية والعمالية والطلابية، وبخاصة بعد العام 1969، ووصلت الفلسفة البنيوية أوجها مع افكار التوسير وكلود ليفي شيتراوس وجاك لاكان ورولان بارت وميشيل فوكو، وكانت المدرسة الفرنسية تطرح التغيير البنيوي في الوقت الذي كانت فيه امريكا تغرق في مستنقع فيتنام، والاتحاد السوفيتي ينجح في قمع التمرد في تشيكوسلوفاكيا، وهنا تتعمق الطروحات الفرنسية وتغذي الحركات الاجتماعية، وتدفع بها إلى السطح في مواجهة صعود اجهزة الدولة الايدلوجية، حيث قابل طفو الحركات الاحتجاجية تطور في البنية الفوقية للدولة من اجهزة تحقيق ومحاكم وسجون ومعلومات جنائية واجهزة قمعية اخرى.
وتأثرت دول المجال المتوسطي، والعربية بالصراع بين معسكري الهيمنة آنذاك الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، وأوجدت أجهزة الإعلام الوطنية تصنيفات للأنظمة العربية، فصار مصطلح الأنظمة التقدمية مقابلاً لمصطلح الرجعية العربية.
وفي الحالتين كان كثير من المسار الديمقراطي العربي خاسراً، فزاد القمع، وزاد الفقر معاً، ونمت طبقة خاصة بالحكم، وبقي هذا الأمر حتى نهاية الثمانينيّات من القرن العشرين.
ليطل عقد التسعينيات بالظاهرة الإسلاموية، وكانت الظروف مواتية لنموه مع تحقق الانتصار الأمريكي في افغانستان، ثم جاءت حرب الخليج الثانية، وما تلاهما من انقسام عربي، لكن الفرز بين الرجعية والتقدمية العربية انتهى، لتتعمق حالة الاستبداد لدى الكثيرين ويتم الانكفاء على تباشير الديمقراطية العربية التي أطلت مطلع ذلك العقد.
كلّ ذلك ساهم مطلع العام 2008 بصعود قوة المجتمعات عبر إعادة حركات الاحتجاج بقالب اجتماعي، انجرت عام 2010 بعنوان الفقر وحقوق العمال، والبحث عن العمل، في الجنوب التونسي ولدى عمال النسيج في مصر، وهي مناطق ما زالت مستمرة في معاناتها حتى اليوم، فالربيع العربي لم يحسن ظروفها، بل ضاعف ازمتها بفقدان الأمن وغياب فعل التنمية.
ليتأكد للإنسان العربي أنّ الانفجار الاجتماعي عربياً ما زالت اسبابه باقية وقابلة للتجدد، خاصة بعد محاولة كثير من الأنظمة مصادرة الفضاء العام وتكميم الأفواه والاقلام بقوانين مانعة للحريات.
الدستور - الخميس 28-2-2019