الإنسان والمجتمع والدولة

أھداني السید صادق إنعام الخواجا آخر كتبھ بعنوان ”التنمیة الواقعیة: الإنسان والمجتمع والدولة“. ویقع الكتاب في 196 صفحة من الحجم المتوسط. والمؤلف یعتبر الكتاب كلھ مقالاً موسعاً لمناقشة جدلیة العلاقات الداخلیة في كل وطن عربي، ومن ثم جدلیة العلاقة بین الدول أنفسھا. وبدون حل وفھم لھذه الجدلیة نبقى في الوطن العربي أسرى للتنمیة الإحصائیة (أو الكمیة)، والتي حققنا منھا الكثیر. ولكن المجتمعات بقیت ھشة غیر قابلة للاستمرار ما لم ننظر إلى المكونات الداخلیة، ونرسم لھا حدوداً وقواعد نلتزم بھا لتحقیق التنمیة الواقعیة الصحیحة القابلة للاستمرار. ُولد السید صادق الخواجا في الكویت، وأنھى دراستھ الثانویة فیھا عام (1978 .(وھو حاصل على درجة البكالوریوس في الاقتصاد والإدارة المالیة من جامعة ریتشموند بالمملكة المتحدة. وھو مدیر لمركز ”البناء المعرفي“ (سرت). وقد ألف عدة كتب منھا ”العقیدة والإنتاج المعرفي“ عام 2007 ،وھو إضافة لھذا خبیر عقاري، وكتب في ھذا المجال. أما كتابھ، فیقدم عدداً من المبادئ التي أود مقاربتھا بأسلوبي الخاص. وفي الفصل الأول یقدم ثلاثة مفاھیم ھي مفھوم الإنسان، وثانیھا مفھوم المجتمع الإنساني، وثالثھا مفھوم الدولة. ویقسم البحث تحت كل عنوان من ھذه العناوین إلى عناوین أخرى تشكل المكونات الأساسیة التي یجب أن تتفاعل مع بعضھا البعض لتشكل حالة یمكن البناء علیھا لكي یتفاعل الإنسان مع المجتمع، ولیتفاھم الاثنان مع المفھوم الأوسع وھو الدولة. فعندما یتكلم عن الإنسان یسمیھ ”شيء“. وھو اصطلاح قد یستغربھ البعض. ولكن مھلاً، فالرجل ّ لا یود المقارنة بین الإنسان والجماد. ولكنھ یتحدث عن ھذه الوحدة الأساسیة المكونة للترتیبات المجتمعیة المتفاعلة مع بعضھا البعض. وفي ھذا الإطار، أثار سؤالاً مھماً: الإنسان شيء مثل باقي الأشیاء، ووجوده على الأرض لھ شروط، فھل یعني ھذا أن وجود الإنسان على الأرض حق أم امتیاز؟ وإذا كان امتیازاً، فھذا یعني أن على الإنسان أن یلتزم بشروط وجوده علیھا.

ویتحدث عن تعامل مكونات المجتمع مع بعضھا البعض متناولاً إیاھا بأسلوب قریب ومتناغم مع ّ فكر ابن خلدون صاحب نظریة ”الإنسان مدني بالطبع“. ولكن التحدي في ھذه العلاقة المجتمعیة ینطوي على أمرین: الأول توسیع قاعدة المشاركة لضمان تناسق المجتمع ورضاه، والثانیة قبول الغنى في التنوع. ویثیر الخواجا عند الحدیث عن التنوع قضیة طریفة. إن مجتمعنا العربي الذي یظھر تنوع الحضارات والثقافات فیھ عبر الآثار المرسومة على أدیم الأرض العربیة لا یرقى إلى مستوى دلیل ذلك التنوع الماثل في الاثنیات المختلفة مثل الیزیدیة، والسومریة، والسریانیة، والأرمنیة، والیھودیة، والطوائف المختلفة والمذاھب المختلفة. لقد استمرت ھذه معنا وصارت جزءاً من طبیعتنا. ولما فقدنا التناغم والتفاعل، وبدأنا مرحلة الشرذمة والتراجع، ارتد كل منا إلى ھویتھ الفرعیة. ولجأنا كما یقول الاقتصادي أمارتیا سین الحائز على جائزة نوبل في كتابھ ”الثقافة والھویة“ إننا صرنا نلجأ إلى اختزال الھویة الشاملة إلى ھویة ضیقة للناس حتى نھاجمھم كما فعل أھل میانیمار بمسلمي الروھینغاه، وأھل یوغسلافیا بمسلمي البوسنة، وداعش بالیزیدیین، والأمثلة على ذلك لا تنتھي. وھو یقول إن فقدان التفاعل والتناغم المجتمعي یقلل من فرص بناء الدولة بمؤسساتھا التي تفسح المجال لكل مكون لكي یتفاعل سیاسیاً واقتصادیاً واجتماعیاً مع المكونات الأخرى للاستفادة من التنوع وتوسیع قاعدة المشاركة بما یضمن حصول النمو النوعي الواقعي. ویتحدث عن الدین والدولة. ویقول إن التراث فیھ أدلة كثیرة في القرآن الكریم الذي یحض على التنوع وقبول الآخر والمشاركة لكل من یود العمل والإنجاز. ویؤكد المؤلف بالفصل الثاني من الكتاب أن كل القیم المجتمعیة ومبادئ الإدارة الدیمقراطیة والنظم القیمیة یجب أن تكرس لخلق البنیة الأساسیة للانطلاق نحو التنمیة الفاعلة. وفي الفصل الأخیر یتناول مجموعة من المبادئ والأسس التي یعتمد علیھا التطبیق الناجح للتنمیة الواقعیة. ویثیر عناوین مھمة یتناولھا بالتحلیل المختصر مثل مفھوم الكتلة الحرجة، الاستدامة وغیرھا، ویربط ھذه العناصر ببعضھا البعض ضمن مصفوفة تفاعلیة تستحق التأمل والتحلیل والمتابعة. ھذا كتاب من رجل واسع الثقافة، غیر متحیز ولا متعصب، یود أن یقدم شیئاً لوطنھ مذكراً إیاي بمقولة ”جون كینیدي“ یوم تنصیبھ رئیساً للولایات المتحدة في شھر كانون الثاني (ینایر) عام 1961“ لا تسأل ماذا قدم لك وطنك.. ولكن اسأل ماذا قدمت أنت لوطنك“.

الغد - الثلاثاء 5-3-2019