الديمقراطية في ثلاثين عاما
في مثل ھذا الیوم قبل ثلاثین عاما كانت الاحتجاجات تنطلق من معان وتصعد إلى الطفیلة ثم الكرك وحتى مشارف عمان التي لم تشھد تظاھرات بل حراكا سیاسیا نشطا من قبل النقابات المھنیة والقوى السیاسیة استثمرت الفرصة لطرح مطالب سیاسیة تردد صداھا في بیانات واعلانات باسم عشائر وتجمعات شتى توحدت على نفس المطالب، وتشكل بالاجمال برنامج اجماع شعبي یتلخص بإنھاء الأحكام العرفیة واطلاق الحریات العامة واستعادة الحیاة البرلمانیة الدیمقراطیة ھذا ما اطلق علیھ اسم ھبة نیسان التي یؤرخ بھا للتحول الدیمقراطي في الأردن. جلالة الراحل الحسین خرج باستنتاج استشرافي سبق الطبقة السیاسیة وكل مراكز القرار في البلد، وأیضا – في مصادفة تاریخیة مدھشة – استبق بشھور قلیلة الحدث العالمي الضخم بانھیار الاتحاد السوفییتي والمنظومة الشرقیة وانتھاء الاستبداد السیاسي، وقرر التغییر ابتداء بحل مجلس ّ النواب والدعوة لانتخابات برلمانیة حرة شاركت بھا القوى السیاسیة والشخصیات العامة بكثافة واطلقت المسار التشریعي للتحول الدیمقراطي. طبعا لم یخل الأمر من نظریة المؤامرة التي لا تصدق انھا كانت ھبة شعبیة عفویة بل أمرا مخططا لھ لغایة في نفس یعقوب. وحتى بعض السیاسیین المعارضین ظلّوا یفكرون انھا ”جمعة مشمشیة“ تستھدف استدراج الاحزاب لتكشف ّ نفسھا ثم لم اعضائھا الى السجن! بالنسبة لي ما تزال تلك احداث الأمس القریب، لكن نصف الأردنیین الموجودین الیوم كانوا اطفالا او لم یولدوا بعد، ومن الصعب ان یتحسسوا الفارق بین قبل وبعد. الفارق بین الدولة العرفیة ودولة القانون والمؤسسات والمواطنة المتساویة وحقوق الانسان وحریة الاعلام. ومن جھتي لم یكن لدي اي شك ان التحول كان نھائیا، وسیكون آمنا وناجحا. بل ان جلالة المغفور لھ الحسین العظیم قال مرة وكأنھ یفكر بصوت عال لو كنت اعرف ذلك لفعلتھا ابكر بكثیر. لكن ما لم یكن متوقعا ھو مدى الصعوبة في ”مأسسة الدیمقراطیة “ وفق نموذج التعددیة الحزبیة
البرلمانیة والتناوب السیاسي على السلطة التنفیذیة. فما انجزتھ دول اوروبا الشرقیة خلال ثلاثة اعوام من تطبیع للتعدیة الحزبیة البرلمانیة وتناوب حكومات منتخبة على السلطة التنفیذیة ما نزال نحن بعد ثلاثین عاما ندور حول انفسنا ونراوح في نفس المكان. لا حاجة في ھذا المقام لتفسیر العلل وتشخیص الأسباب، فقد فعلنا ذلك آلاف المرات وما نزال في كل مناسبة نناقش الواقع السیاسي. لكن یستحق التنویھ ان التعثر والمراوحة لا یتعلق بالحیاة السیاسیة فقط بل ایضا بالاقتصاد والمجتمع والمؤسسات. فقد بدأ مشوار “ التصحیح الاقتصادي من العام 90 وحققنا النتائج المطلوبة مالیا خلال عقد وكان یفترض خلال أو بعد ذلك ان نحقق نھوضا وازدھارا اقتصادیا جدیرا ببلد كان سباقا في النھضة التعلیمیة والاجتماعیة ولاحقا في استخدام تكنولوجیا المعلومات لكن ذلك لم یحدث بل كانت تحدث فورات وطفرات مدفوعة بتطورات اقلیمیة خصوصا في النشاط العقاري والسوق المالي تلیھا فترات ركود ومعاناة أیضا بتأثیرات خارجیة لنكتشف ان الاقتصاد الحقیقي لا یتقدم ویبقى حبیس امراضھ المزمنة وفي مقدمتھا انخفاض انتاجیة المجتمع وترھل الادارة واستشراء الفساد. من بین العادات السیئة ھي تعلیق الفشل على مشاجب آخرین، یبدأ ذلك من المستوى الكوني بتعلیق مآسي العرب على تآمر القوى الكبرى وینتھي في كل مكتب او ورشة او بیت حول صغائر الأمور وبینھما السجال الدائم حول اسباب ضعف الاحزاب السیاسیة ومجالس النواب ّ والحكومات. ومن جھتي أصبحت شدید التواضع لادعاء اي تفسیر انما من الواضح ان فكرتنا عن انفسنا قد تكون غیر واقعیة وتقود الى استنتاجات غیر موضوعیة. وحتى الربیع العربي الذي رأى فیھ جلالة الملك فرصة استثنائیة تم التجاوب معھا بتعدیلات دستوریة وتشریعیة لتحقیق الاصلاح السیاسي لم یوصلنا الى نتیجة. وعلى كل حال اذا نظرنا الى النصف الممتلئ من الكأس فقد عبرنا اخطر المراحل بأمن وسلام وما نزال قادرین أن ننزل الى الشارع للاحتجاج أو نجلس معا كل ساعة لبحث سبل التقدم للأمام.
الغد - الجمعة 19-4-2019