حتى الجنون في مجتمعاتنا تدهور..!
لا ادري كيف يمكن «لأخ» أن يتنازل عن اخوته ويقتل شقيقه دون ان يرفّ له جفن، او «لأم» ان تتخلى عن أمومتها وتطوع لها نفسها قتل ابنائها فلذة كبدها، أو كيف يمكن «لابن» أن يوجه رصاصاته القاتلة تجاه والده الذي رباه، او لزوج ان يتجرأ بقتل زوجته وامها ويكاد يلحق بهما حماه لولا قدر الله، كيف يمكن لأحدنا أن يتصور هذه الجرائم التي غالبا ما ترتكب في اطار الاسرة الواحدة بدم بارد، وتسجل في اروقة القضاء برسم «المحاكمة» دون ان تهز موازيننا الاجتماعية وتطرق بقوة على جدراننا التي ما تزال صامتة.
لا أفهم لماذا يحدث هذا، هل هو «الجنون»، ولو كان كذلك لوجدنا له في «قواميس» علم النفس ما يفسره، هل هو القسوة التي اجتاحت مجتمعاتنا فولدت فيها الاحقاد والضغائن وفسائل الكراهية، هل هو اليأس الذي أطبق على بعضنا فانتهى به الى الانتقام من كل شي، حتى ولو كان اعز ما نملك، حقا لا ادري لأن هذه «الجرائم» أكبر من ان تدرج في سياقات الفهم والتفسير وفق قواعد «الانحرافات» السلوكية التي عرفناها.
الصور التي عهدناها للامراض النفسية والعقلية - كما يقول د. محمد المخزنجي طبيب الامراض النفسية - يبدو انها تغيرت جدا عما ألفناه في العقود الماضية، كيف؟ هنالك اعراض اختفت تماما من ساحة هذه الامراض وظهرت اعراض اخرى، هذه اصبحت مزيجا غير متجانس من الذهانات المختلطة والاكتئابات وحالات الهلع، كيف مرة أخرى؟ طغيان الاكتئاب والهلع وفقر النسيج البلاغي في الامراض النفسية مؤشرات على «تدهور» الجنون، حتى الجنون في مجتمعاتنا تدهور؟
تساءلت: هل نحن امام حالة من تدهور أو انحدار الجنون، وهل يستدعي ذلك استنفار قوانا العلمية والاجتماعية ومراصدنا السياسية والاقتصادية لقراءتها والاجابة عن اسئلتها الخطيرة.. وهل معاقبة «الجناة» تكفي أم ان ثمة حقا للمجتمع لا يسقط بمجرد المحاكمة؟ نحن لا نتحدث عن جرائم قتل عادية، وانما عن جرائم غير طبيعية اصبحت تتصاعد في مجتمعنا - للاسف - ومن واجبنا ان ندق ناقوس الخطر لأنه لا يعرف احد منا فيما اذا كان في يوم من الايام «ضحية» لمثل هذه الجرائم، سواء كان قاتلا أم مقتولا، كما ان من حقنا ان نفهم لماذا يحدث ذلك، وكيف، وهذا الحق ليس متعلقا بالعقاب وتفاصيل الجريمة، وانما في المعرفة النفسية والاجتماعية، وفي معرفة كيف يمكن ان «نقي» أنفسنا منها، او نواجهها بما يلزم من معالجات.
هذا يحتاج الى انشاء «مرصد نفسي واجتماعي» يتولى بحث واستقصاء هذه الظاهرة الغريبة، ويضع للمسؤول - حيثما كان - ما يلزم من قصورات واجراءات، لفهمها والتعامل معها.. فما يحدث - كما قلت سلفا - يبدو خارج سياق القصور والتفسير والادراك.. واخطر ما فيه انه يعبر عن تحولات أصابت مجتمعنا وأوصلته الى هذا المصير.
الدستور -