الانفصام: الأسعار والأدوية والدراما
اصرار عجیب وبیانات رسمیة صارمة تبرر الوضع القائم في تسعیر الدواء في الأردن، فیما بقیت المؤسسات المعنیة مصرة على عدالة تسعیرة الدواء ولم تقبل الأصوات التي اشتكت بمرارة من الارتفاع الجنوني لأسعار الدواء الذي قد یصل في بعض الحالات إلى ثلاثة أضعاف ما ھو موجود في دول مجاورة، یوم الخمیس الماضي جاء التدخل الملكي وتبین انھ بالامكان مراجعة نحو 1227 دواء ومستلزما طبیا وتخفیضھا بنسب مختلفھ من 20 % إلى 63.% بعد وقت قصیر یثیر الناشطون إلى مواقع التواصل الاجتماعي مواقف وانفعالات حول المسلسل العالمي ”جن“ الذي من الواضح ان فیھ تجاوزات اخلاقیة في اللغة والتعبیرات المخجلة، ولكنھا لا تستحق كل ھذه الضجة حالة الانفصام ذاتھا تتكرر بشكل آخر حینما تنبري المؤسسات الرسمیة لركوب الموجة بالتخلي عن المسؤولیة أو بالتھدید والوعید بعد ان وقع الفأس بالرأس. قبل اسابیع تدخل الملك في ملف الغارمات بعد تھرب رسمي عابر للحكومات لمشكلة وطنیة من العیار الثقیل أدت إلى تورط عشرات آلاف من النساء والأسر نتیجة جشع مؤسسات مالیة في حالة من غیاب الرقابة الرسمیة على ھذا القطاع، صحیح ان التدخل الملكي جاء من باب إنساني لوقف ھذه المأساة، وترك للمؤسسات الرسمیة البحث في خلفیاتھا بل طلب منھا العمل من اجل تجنب استمرار ھذه الظاھرة، والى الیوم ما تزال شركات التمویل تعمل بالطریقة ذاتھا بدون أي رادع. من الواضح حجم حالة الانفصام الكبیرة في اداء بعض المؤسسات وفي سلوك بعض المسؤولین وكیف تعمل ھذه الحالة في ضرب الكفاءة العامة للدولة، كما ان ھذه الحالة تحرم البلاد من وجود مساءلة مجتمعیة رشیدة ومنضبطة، بعیدا عن الشعبویة المفرطة في الانفعالات والصوت العالي، ولعل ھذه مشكلة عالمیة تعاني منھا الكثیر من المجتمعات لكن لدینا تأتي بآثار أعمق نتیجة الاختلالات الإداریة العمیقة وما اصاب التكنوقراط الرسمي من تردد وضعف واحیانا ركوب الموجة الشعبویة دون الاستعداد للمواجھة.
إن استمرار ضعف الشفافیة في الإجراءات الرسمیة، وضعف توفیر المعلومات العامة بشكل أكبر للمواطنین، ولوسائل الإعلام، سیجعل المساءلة الشعبیة دوما قائمة على الانطباعات وعلى الاتھام لا یمكن بأي حال ان نتصور تطویر انظمة للنزاھة بدون نظم وطنیة للشفافیة تتمتع بالكفاءة والجودة، وھذا یتطلب نظم معلومات وطنیة في كل قطاع على حدة وإجراءات مؤسسیة واضحة لضمان الشفافیة. أزمة إدارة حقیقیة متدحرجة ملخصھا ضعف الاداء والصوت العالي والضجیج؛ كل یوم یزداد حجم ھذه الازمة وتتسع قاعدة انتشارھا. أما نتائجھا الفعلیة، فقد بدأت تُلمس منذ صیف العام 2009 ،وعنوانھا الأبرز والأكثر وضوحا ھو تراجع كفاءة العدید من المؤسسات وتمادي حالة الاسترخاء، حتى باتت الیوم كأنھا تكتفي بمجرد إدارة ھذا الاسترخاء، على نحو ما یبدو ذلك في العدید من الوزارات والمؤسسات المستقلة، والجامعات، والدوائر الخدمیة. وقد كانت تلك نتائج مراحل لیست بالقصیرة من تراجع الأداء العام، بینما ساھمت المقاربة السیاسیة في التعامل مع الاحتجاجات الشعبیة بعد العام 2011 في كشف ھذا الضعف، أي ان الاستجابة الأمنیة التي كانت في اعلى درجات الكفاءة في تمریر المرحلة لم یتبعھا استجابة من قبل التكنوقراط الرسمي في استعادة كفاءة مؤسساتھم. إعادة اكتشاف قوة الدولة تتطلب الیوم رؤیة جدیدة، تُعنى بإعادة تعریف الإدارة العامة في سیاق الأزمة الاقتصادیة الراھنة. وفي ظل التوقعات القاتمة، وما ترتبھ من تداعیات التنافس الشرس والتھدیدات القائمة والمنتظرة، مقابل الفرص المتاحة والمتوقعة، تتطلب ھذه الرؤیة إعادة تعریف علاقة المواطن بالدولة، وعلاقة القطاع العام مع القطاع الخاص، ومنح جرعة من القوة لمنظومة فاعلة وجادة من إجراءات النزاھة واجتثاث مصادر الفساد ومصادر الترھل والاسترخاء ثم وضع مقاربة للكیفیة التي یجب ان یعمل كل من التحدیث والاتمتة في تحسین الأداء العام وزیادة الكفاءة وسرعة الاستجابة.
الغد - الجمعة 14-5-2019