جمالية المتقابلات السردية في "رقصة العنكبوت"

تم نشره الجمعة 04 آذار / مارس 2011 12:35 صباحاً
جمالية المتقابلات السردية  في "رقصة العنكبوت"

 

تبدو - للوهلة الأولى-  "رقصة العنكبوت" للكاتب المغربي مصطفى لغتيري رواية المكان بامتياز، فيخيّل للقارئ أن السارد يحمل كاميرا،  وهو يصف أزقة وشوارع  الدار البيضاء، مقاهيها وحدائقها العمومية، وبنفس الأسلوب المشهدي يرصد رحلته من البيضاء في اتجاه سيدي بوزيد، ولن نغالي إن اعتبرناها أول نوفيللا مغربية  تحتفي بالمكان،  بعيدًا عن الرؤية السياحية أو الفلكلورية، ولا غرو أن تحتفي  "رقصة العنكبوت" بمفرداته- المكان-، لأن  يوسف - الشخصية الرئيسة في الرواية- عاطل عن العمل، وعبر هذا "التسكع" السردي الآسر يحتفي مصطفى لغتيري بتفاصيل معيش يوميّ، موشى بتأملات شتى.. متوسلا سردًا خطيًّا، تكسر تراتبيته محكيات استرجاعية أو حلمية/كاوبوسية.

***

عنوان الرواية مستوحى من الفصل الكابوسي/ الكافكاوي (الفصل العاشر)، فالعنكبوت التي يراها السارد في حلمه تتضخم فوق اللوحة، لم تكن سوى تعبير لا شعويّ عن القلق الذي انتاب يوسف، حين حذرته هدى، ابنة السيد حسن، الرجل المحتال.. اللوحة مجرد كمين، والعنكبوت التي تنسج خيوطها هي السيد حسن، الذي يبيع التحف واللوحات المزيّفة، وهو ما سيتضح في الفصل الأخير؛ الرسم وسيلة لإشباع نزواته كرجل مثليّ... وهذا السيد كان  يبرر تزويره للوحات الرسامين المشاهير بأن من يقتنون اللوحات لا يفقهون شيئا في الفن، ويقتنونها فقط لتزيين محلاتهم التجارية حتى تعطي إحساسًا بالفخامة للزبون : "هناك أصناف من الناس تدفع أكثر بسبب هذه المكيدة"'(ص 14).  ويقبل يوسف هذا العمل، على الرغم من رفض صديقته منى، التي خيّرته بين ترك العمل أو قطع صلته بها، ولم يقاوم الإغراء،  لأن لا أحد يقبل شراء لوحاته الشخصية، ويفضّل استغلال موهبته.. بدل هذه الهواية التي لا يجني من ورائها أي ربح.

منى تبدو مثالية وعنيدة مثل أبيها، لكن يوسف يبرر استسلامه بأن : "الجريمة هي أن أظل هكذا أتسكع في الأزقة دون عمل. إنني يومًا بعد يوم أدنو من حالة يصعب العودة منها" (ص20-21).

وفي ظل وضع متأزم كهذا، سنتعرف على أصدقاء يوسف، الحالمين بفردوس الضفة الأخرى.. عن طريق الهجرة السرية، وكان يوسف يعارض فكرة الهجرة غير الشرعية، لأنها محفوفة بالمخاطر، وأيضًا استهجانًا  لأعمال يرفضونها في الوطن،  ويقبلون عليها هناك، كالعمل في الحقول. ويركز مصطفى لغتيري على  انهزامية الشباب وسلبيتهم السياسية، وهروبهم من الواقع بالسكر،  وهنا سندرك لم أفرد لغتيري  مقطعا سرديًّا مطولا لوالد منى،  الذي دفعه حلمه بالعدالة الاجتماعية إلى  المشاركة في إضراب 1981م،   ففصل ثلاث سنوات من الوظيفة، وعانى من الحاجة والمهانة.. لكن، هل كل الشباب مثل أصدقاء يوسف؟ كلا، ففي روايته "ليلة إفريقية"  فتية يحلمون بحياة كريمة في وطنهم، دون أن يفكروا في  الضفة الأخرى.. بيد أن قوات الأمن تغتال إنسانيتهم  أمام مبنى البرلمان.

***

ومرة أخرى، يبرع مصطفى في لعبة المرايا المتقابلة، في مقاربته لسؤال  الهوية، الذي سبق أن تطرق إليه في روايته السابقة "ليلة إفريقية"؛ لكن في هذه الرواية يتناوله من وجهة نظر أخرى، ويلفت انتباهنا ولع الكاتب بأسماء الأنبياء، حيث اختار اسم (يوسف) لبطل رواية "رقصة العنكبوت"، و (يحيى)  في "ليلة إفريقية"، لكن نميل إلى أنه اختار هذين الاسمين لكونهما من الأسماء المتداولة في المجتمعات العربية المسلمة، بعيدًا عن أي تفسيرات دينية، متعصبة.. ويتطرق  الروائي إلى الاستلاب من خلال سماع يوسف أغنية بوب مارلي، الطاعن في إفريقيته، وكان بإمكان الروائي التوسل بمغنّ إفريقي آخر يفوقه شهرة، وهو مايكل جاكسون، لكن تم استبعاده، لأنه مسلوب الهوية، متنكر حتى للونه.  

تتحدث كلمات الأغنية الإفريقية عن مصير الإنسان الأسود في القارة الأمريكية، بعد أن اقتلع من تربته الطبيعية في رحاب إفريقيا. فيفكر يوسف في القهر، الذي عانته البشرية   بسبب التمييز العنصري،  وفي أصدقائه الحالمين بالضفة الأخرى.. وهي إشارة لبيبة من الكاتب لنستحضر سلبيات الهجرة،  وأهمها ما نلمسه عند الجيل الثاني من المهاجرين، الذي ينشأ أفراده  شبه مهجنين، ممزقين بين دم عربي  وأرض غريبة..  والحديث عن الاستلاب الأمريكي يجعلنا نستحضر فصلا سابقًا، يبدو كأنه مقاربة نقدية لفيلم سينمائي أمريكي.
بإمكاننا أن نتساءل ببراءة : هل تستطيع أغنية إفريقية هزم  فيلم سينمائي أمريكي؟ بالتأكيد لا، فالفنون تتلاقح في ما بينها، ولا تتصارع.. الصراع  اختراع إنساني محض، والفن أسمى من كل هذه النزعات البشرية المنحرفة، لكن ننوه باحتفاء مصطفى لغتيري بثلاثة فنون في روايته : الرسم، الموسيقى والسينما.
 في هذا الفصل وظف الكاتب  المحكي السينمائي ببراعة، لا سيما وأن الخلفية الزمنية للرواية هي بداية التسعينات، حيث شهد العالم ما عرف بعاصفة الصحراء، وفي عتمة قاعة السينما يعتبر يوسف  شن أمريكا غارة على العراق محاولة لتصفية حسابات مع الماضي.. للكبرياء الأمريكي، الذي تمرغ في الوحل الفيتنامي.  وفي لمحة ذكية عن القطيع، الذي تقوده أمريكا،  يشير الكاتب إلى  توقف بطل الفيلم عن الركض، والذي قضى مدة طويلة في الفيلم، وهو يركض، وعند ما قرر التوقف والعودة إلى بيته،  سأله بعض من التحقوا به  وركضوا معه، فأجابهم ببساطة :
- لقد تعبت وأريد العودة إلى البيت.
حينذاك علق آخر متسائلا :
-  ونحن ماذا نفعل؟
ويفسر السارد هذا المشهد  بأنها "ثقافة القطيع" التي تحكم البشر، "فالمرء يحتاج دومًا إلى  أن يبرر سلوكاته من خلال ما يقوم به الآخرين، حتى لو كان يعلم أنهم مخطئون" (ص55).


"رقصة العنكبوت" تشكل رافدًا جديدًا إلى التجربة الروائية لدى مصطفى لغتيري،  وإضافة نوعية للمكتبة المغربية والعربية، إنها رواية تحتاج إلى أكثر من قراءة، حتى يمكن أن تسبر أغوارها، وتملأ بياضاتها، ولو كتبت بأسلوب سهل ممتنع، و...مخاتل.


 



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات