تونس.. إلى الأمام سر
برحيل الزعيم التونسي القايد باجي السبسي تطوي تونس صفحة في العهد الجديد، ينتظر العالم المشهد القادم بعد سنوات من الربيع التونسي الذي أثبت انه الربيع الحقيقي في مرحلة التحولات العربية القاسية، العالم استقبل نبأ وفاة الزعيم التونسي بالكثير من التقدير بعد خمس سنوات في السلطة التي وصلت اليه بعد تداول ديمقراطي سلمي هو الوحيد في العالم العربي.
ساهم السبسي خلال هذه السنوات في ترسيخ بنية مؤسسية للديمقراطية هي الافضل في العالم العربي المعاصر، واستطاع ان يلفت انتباه العالم الديمقراطي لما يجري في هذا البلد وان يكسب مساندته ودعمه، ومن المتوقع ان تجري الانتخابات التونسية التي حددت في الخامس عشر من شهر ايلول القادم بيسر وان تنتقل السلطة مجددا بهدوء، فهذا البلد يثبت ان المجتمعات العربية جاهزة للديمقراطية وقادرة على حمايتها.
خلال السنوات الخمس الاخيرة شهدت تونس زخما حقيقيا راكم في بناء معمار الديمقراطية، تمثل في ارساء قواعد المؤسسات السياسية وزيادة ترسيخها، وفي بناء التحالفات السياسية داخل الحكم وخارجه واستطاعت الدولة استيعاب كافة التيارات السياسية وعلى رأسها الاسلاميون واليسار، ودخل حزب نداء تونس الذي يتزعمه الرئيس الراحل في تحالفات مع هذه القوى، في حين كان المجتمع المدني التونسي يتوسع ويزداد قوة، فقد منحت في العام 2015 جائزة نوبل للسلام للرباعي الراعي للحوار الوطني والعمل السياسي التونسي الذي يضم منظمات الاتحاد العام التونسي للشغل، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، والهيئة الوطنية للمحامين التونسيين في اول تكريم عالمي بهذا المستوى للمجتمعات المدنية في العالم العربي.
كل يوم، تعلمنا التجربة التونسية دروسا جديدة ومختلفة؛ أهمها أن الديمقراطية التي تعلمنا احترام الاختلاف والتنوع والاحتكام لصناديق الاقتراع، تعلمنا أيضا، وبالقدر نفسه من الأهمية، القدرة على صياغة التوافق الوطني. فالديمقراطيون الذين لا يستطيعون الوصول إلى التوافق في لحظة ما، لن يستطيعوا أن يحموا التعددية في لحظة أخرى. وبالتالي فهم لا يستحقون الديمقراطية ولن يحموها.
صحيح أن السنين التونسية الأخيرة لم تكن ورودا وياسمين بأكملها، بل شهدت دماء ولحظات احتقان عاصفة كادت تودي بأحلام الثورة وأشواقها؛ لكن النضوج الثقافي والسياسي الذي أبداه المجتمع التونسي، انحاز في معظم تلك اللحظات العاصفة لخيار الدولة المدنية، وللديمقراطية، ولحق الجميع في ممارسة السياسة ضمن هذه الحدود.
وهنا يبرز الفرق بين الخميرة التونسية الناجزة، وبين التجارب غير الناضجة التي ذهبت نحو المصائر المعتمة التي وصلت إليها معظم مجتمعات التحولات العربية. وهو ما يطرح السؤال: لماذا تونس؟ هل يعود ذلك إلى اتصالها المباشر مع الغرب الديمقراطي، أم إلى إنجازات التنمية البشرية، وعلى رأسها ما حققه هذا المجتمع في مجال التعليم وحقوق المرأة؟
المفاجأة الكبرى تتكرر مرتين. الأولى، حينما دفعت تونس كثيرين للتلفت حولهم في الأيام الأخيرة من العام 2010؛ إنها المرة الأولى التي يفعلها الشارع العربي بالإطاحة بدكتاتور من دون أن يأتي حلم الديمقراطية على دبابات الغزاة أو عبر صناديق اقتراع يهيمن عليها الإسلاميون للأبد. والمرة الثانية هذه الأيام، ونحن نشاهد الديمقراطية التونسية تصمد وسط القبائل المتناحرة من حولها.
كان خير الدين التونسي؛ صاحب أول مشروع إصلاحي في تونس الحديثة وأبو النهضة التونسية في القرن التاسع عشر، يكتب داعيا بلاده إلى أن تلحق بالغرب وتتجاوزه. وكان يضع التعليم أول مدماك وآخر حجر في معمار الإصلاح والنهضة. تونس المعاصرة اليوم تمنحنا بعض الأمل، وتجعل العالم يتردد في تصديق مقولة العقم الثقافي العربي في تعلم الديمقراطية وممارستها. لكن، متى يصل عطر الياسمين التونسي إلى الجيران؟
الغد = الاثنين 29-7-2019