مقامات الأنبياء وتسييس الدين الشعبي
تفتح حادثة اقتحام مجموعة من السياح الإسرائيليين المتدينين ما يسمى (مقام النبي هارون) في البترا في الأول من آب واقامة طقوس دينية يهودية فيه الباب لاسئلة متعددة حول حقيقة هذه المقامات والاضرحة، وهل هي بالفعل قبور أو أماكن اقامة لهذه الشخصيات الدينية، وما دور الدين الشعبي الذي تعاظم في مناطق بلاد الشام والعراق ومصر منذ عصور الفاطميين والمماليك وساندته السلالات الحاكمة بحثا عن شرعية دينية على مدى قرون من الزمن في خلق طبقات من الخرافات الاجتماعية التي تحولت الى ما يسمى علميا “الدين الشعبي”، والسؤال الأهم اليوم كيف يتم تسليع هذا الدين الشعبي اليوم باسم السياحة ومن ثم تسييسه من منظور صراعي قد يكون له تبعاته الخطيرة على المدى البعيد.
يميز علماء الاجتماع الديني والانثربيولوجيا الاجتماعية بين الدين الرسمي وهو الدين المحفوظ في النصوص والممارسات الأصلية وكما حددتها المؤسسة الدينية التاريخية، وبين الدين الشعبي وهو تعبير اجتماعي يعنى بالمعتقدات والممارسات الشعبية التي تبرز على شكل تعبيرات دينية باستقلال نسبي عن المؤسسة الدينية الرسمية، والدين الشعبي يوصف بالتنوع الشديد والتناقض والتكرار والتشابه العابر للاديان الرسمية بمعنى أن مقاما ما يقدس من قبل اتباع أكثر من دين في الوقت نفسه، وتنتشر ممارسات الدين الشعبي حول المزارات أو أضرحة الأولياء والقديسين الصالحين ممن لهم أصول في التاريخ أو حول شخصيات أسطورية، وقد يصل تقديس الأشجار وتكوينات الطبيعة الأخرى وعادة ما يزدهر الدين الشعبي في ظروف وأوقات تسترخي فيها المؤسسة الدينية الرسمية أو في اوقات الانحطاط الثقافي أو وجود سلطة سياسية تبحث عن شرعية ولا تجدها الا في الدين الشعبي كما حدث مع المماليك على سبيل المثال.
في الأردن المعاصر، يعتقد بوجود العديد من المقامات الدينية التي تقع ضمن دائرة الدين الشعبي وبعضها يوجد داخله بناء على هيئة قبر ومنها (مقام النبي يوشع، مقام النبي هارون، مقام هود، مقام حزير، مقام النبي شعيب، مقام جادور، مقام النبي ايوب، مقام النبي سليمان، مقام النبي نوح، مقام النبي لوط، مقام الخضر،..) وباستثناء الأضرحة التي تعود لمرحلة الفتوحات الإسلامية وبعض المواقع المسيحية، فان الاماكن الدينية الاخرى غير تاريخية بالمعنى العلمي ولا يوجد أدلة أثرية تثبتها، بل لا تعدو أكثر من معتقدات شعبية مزمنة، ولعل ما يثبت ذلك وجود العديد من المقامات لنفس النبي أو الولي في العديد من الأماكن ولو اخذنا مقام النبي هارون الذي يثار حوله النقاش هذه الأيام فهناك العديد من المقامات التي يزعم انها ضريح هذه الشخصية الدينية اليهودية فهناك مقام بهذا الاسم في العراق وآخر في ديار بكر وأكثر من مكان في سيناء.
لقد شهد الأردن عشرات أعمال الحفريات الأثرية ومحاولات الاستكشاف التي قامت بها مدرسة الآثار التوراتية منذ نهاية القرن التاسع عشر ومولها صندوق استكشاف فلسطين الصهيوني (صندوق تأسس العام 1865 في لندن بتمويل يهودي) ولم تستطع تلك الحفريات ان تثبت أو تأتي بدليل حقيقي على استقرار يهودي في شرق الأردن، ومن بينها المسح الأثري لعدد من المواسم لمنطقة جبل هارون بالقرب من البتراء الذي قامت به جامعات غربية ومنها حفرية فلندية اثبتت وجود استيطان بشري في العصر الحجري ووجود فؤوس من العصر البرونزي ووجود استيطان ادومي وفخار وآثار نبطية وآثار رومانية وبيزنطية وإسلامية.
استخدمت دول الشرق الأوسط وشمال افريقيا سياسات متفاوتة في التعامل مع الدين الشعبي بين المقاومة والرفض وبين الاستجابة لمتطلباته واخيرا التعايش مع وجوده كما فعلت الدولة الأردنية في أغلب الأوقات، أو استيعابه حينما عملت على تحويل بعض المقامات الخربة الى مساجد حديثة.
نحن اليوم بحاجة الى سياسة رسمية واضحة وحاسمة حول ممارسات الدين الشعبي والرموز التي تدور حولها، سياسة تنحاز الى تحديث المجتمع الأردني وتبتعد عن تسليع الثقافة الهشة والدين الشعبي باسم السياحة، سياسة عامة ذات رؤية عميقة للصراعات في المنطقة ودور التاريخ والخرافة فيها.
الغد - االجمعة 3-8-2019