ثقة الناس بالناس (1)
حتى الأمس كانت استطلاعات الرأي التي تجريها مراكز معتبرة مثل مركز الدراسات الاستراتيجية بالجامعة الأردنية تسأل الناس عن ثقتهم بالمؤسسات، والاتجاه العام يذهب من ثقة اعلى بالمؤسسة العسكرية والأمن، وينحدر إلى مستوى أدنى مع النواب واكثر من ذلك مع الاحزاب لكن لأول مرة أقرأ كما في آخر استطلاع للمركز عن ثقة الناس ببعضهم.. وجاءت النتيجة صادمة!
90 % تقريبا لا يثقون بالناس ! معقول ؟! هل هناك مشكلة في الاستطلاع أو سوء تفاهم في السؤال الذي لو صيغ بطريقة أخرى كان سيعطي نتائج مختلفة كأن تكون الاجابة حول نسبة الثقة بدل أن تكون بنعم او بلا. مهما يكن فإنني أعتقد أن النتيجة تعكس إلى حد بعيد واقع حال قائم ربما تفاقم في الأزمنة الأخيرة بصورة مرضية جعلت الثقة العامة تنزل إلى ادنى الدرجات رغم وجود ظواهر هنا وهناك تجعلنا نستعيد شيئا من الثقة ونقول ما يزال في الناس الخير.
لو عدنا إلى عمق ثقافتنا الاجتماعية فهي تدعو وتشجع على عدم الثقة ويوصف من يثق بالناس ويصدقهم انه طيب وساذج وحتى أبله ومن لا يثق بأنه نبيه وشاطر وفطين. واذا راجعنا النمط السائد في المعاملات فهو يقوم على عدم الثقة فمن “يسلم دقنه” للآخرين استنادا إلى ” حكي رجال ” ودق عالصدور فهو ضائع لا محالة. وفي المفاوضات العسيرة بين الأطراف يسعى كل طرف أن يضع الآخر في “بطنه” فمع المقاول تتدلل وتمد قدميك وتتمطى إذا أنجز لك عملا وما زلت لم تدفع له كامل الاستحقاق وبالعكس اذا قدمت دفعات تفوق نسبة العمل المنجز فقد ضعت في دهاليز المماطلة والتأخير والغش بما يجعلك تقرف حياتك. وفرحة العمر ان تجد ميكانيكيا ثقة تأتمنه على سيارتك وكلفة عادلة لتصليحها وينسحب الحال على كل مهنة اخرى. ولعل عادة المقايضة على السعر لأي سلعة أو خدمة هي في صميم تقاليدنا وهي تعكس غياب الثقة وتدخل الطرفين في حلقة مفرغة فالبائع يعرف انك ستقايض ولن تخرج راضيا الا بخصم معتبر فيرفع السعر وانت تعرف انه يرفع السعر فتقايض لتخفيضه وهنا تدخل في لعبة التشاطر بين الطرفين. وعلى نطاق اوسع في الصفقات والأعمال فإن معاناة القطاعات الاقتصادية في جزء كبير منها تعود لانعدام الثقة وغياب المصداقية.
أما المعاملات الرسمية – ولنقل أيام الورق وما قبل الحكومة الالكترونية – فكلها تقوم على عدم الثقة وكم معاملة يجب ان تقدم معها شهادة ميلاد مصدقة مع ان جوازك او هويتك مثبت عليها تاريخ ومكان الولادة واسم الأب والأم وكم من الأوراق والمصدقات التي يجب التنقل بها واخذ تواقيع عدد لا يحصى من الموظفين لا قيمة حقيقية لها سوى رفض الاستناد إلى الاقرار الذاتي بها على النقيض حرفيا من دول الغرب حيث يكتفى بالمعلومات التي يقدمها المراجع كحقيقة وهو يعلم بالطبع ان ثمن الكذب باهظ جدا. ومن زمان كنت اطالب بتقليص الوثائق المطلوبة إلى ادنى حد مقابل اعتماد المعلومات التي يقدمها المراجع مع تغليظ العقوبات إلى اقصى حد لتقديم معلومات غير صحيحة فهذا يسهل ويسرع المعاملات ويخفف على الناس والأهم انه عملية تربوية لإعلاء قيمة الصدق ونبذ الكذب والاحتيال وفي الغرب فإن الصدق قيمة عليا والكذب جريمة خطيرة وهو حتما “ليس ملح الرجال”، والفضيحة الكبرى التي لحقت بالرئيس كلينتون احد اعظم الرؤساء الأميركيين لم تكن الاتصال الجنسي مع مونيكا لوينسكا بل الكذب بشأن ما حصل معها، وقد لوحق على ذلك بشراسة حتى اضطر ان يعترف بأنه كذب ويعتذر بذلّ للشعب الأميركي عن ذلك.
الغد - الخميس 8-8-2019