الإفلاس الأيديولوجي والحلول العملية
واحدة من أهم نتائج الربيع العربي هي تعرية القوى الايديولوجية في الوطن العربي وإظهار افلاسها الفكري في تقديم الحلول العملية للتحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تواجه المجتمعات كافة في الوطن العربي. و بالرغم من ذلك، ما تزال هذه القوى، مدنية ودينية على حد سواء، تتذرع بكافة الأسباب التي حالت دون تقديمها حلولا عملية. كثير من هذه الأسباب قد تكون موضوعية، ولكن هذه القوى ما تزال تقاوم وبشتى الوسائل ولو قدرا يسيرا من النقد الذاتي وسؤال أنفسها فيما إذا كانت ايديولوجياتها المدنية أو الدينية كافية لإحداث نقلة نوعية في مجتمعاتها.
لم يشهد الأردن في معظم تاريخه السياسي وصول قوى فكرية متناغمة إلى السلطة التنفيذية وتقديم رؤاها الاقتصادية والاجتماعية، واكتفى عوضا عن ذلك بجهود فردية لتطبيق رؤى اقتصادية واجتماعية مختلفة نجحت في بعض النواحي، ولكنها كانت غالبا عرضة لتقلبات كثيرة مع تقلب الحكومات السريع، خاصة مع قدوم اكثر من مائة حكومة اردنية منذ تأسيس الإمارة العام 1921. وكان جل تركيز الدولة على النواحي الأمنية دون وجود رؤية مستدامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. وكان من الطبيعي ان نشهد تقلبات كثيرة من رؤى اعتمدت في اقصاها مفهوم دولة الرفاه وتعظيم دور القطاع العام في إدارة التنمية وفي اقصاها الآخر على مفهوم اقتصاد السوق الحر، مرورا بمفاهيم متعددة بين هذين القطبين.
واقع الحال اليوم يقول إن هاتين المدرستين لم تنجحا في وضع الأردن على سكة التنمية المستدامة، بغض النظر عن آراء مناصري كل منها، والتي كانت في الكثير من الأحيان آراء أيديولوجية تفتقر إلى الأرقام والإثباتات العملية. ولا عجب في ذلك، فإن مفهوم دولة الرفاه في اقصاه الشيوعي انتهى عالميا العام 1989، ومفهوم اقتصاد السوق الحر بالكامل انتهى عالميا ايضا العام 2008 بعد الأزمة المالية العالمية.
بالرغم من كل ذلك، فقد تنبه الأردن حتى قبل الأزمة المالية العالمية لضرورة ايجاد توافق وطني يجمع بين تسليم دفة ادارة التنمية للقطاع الخاص الأقدر على تعظيم الإنتاجية وزيادة النمو، وبين الابقاء على دور القطاع العام في تنظيم السوق ومنع الاحتكار وتقديم الخدمات الأساسية للمواطنين من صحة وتعليم ونقل لتأهيلهم وتمكينهم، كل ذلك في إطار سياسي يضمن الحريات الأساسية للمواطنين والمواطنات ويوسع قاعدة صنع القرار.
دعي هذا التوافق الوطني، الذي كتب بأيد أردنية شكلت تمثيلا واسعا للطيف السياسي والاقتصادي والاجتماعي في البلاد، بالأجندة الوطنية، والتي ما كادت تنجز حتى وضعت على الرف لأنه لم يكن هناك استعداد لتغيير طريقة إدارة البلاد.
حسنا، ما هي الخيارات المتاحة للأردن اليوم بعد ان تم استنفاد أسلوب الإدارة التقليدي السابق، بعيدا عن وضع اللوم دائما على العوامل الخارجية دون النظر الجدي مرة للمرآة؟
هل نتشبث بأسلوب الإدارة القديم وننتظر الفرج من عوامل أو دول خارجية كالسعودية أو الولايات المتحدة وقد اصبح واضحا ان النظام الريعي المعتمد على التمويل الخارجي في طريقه للزوال، فنواجه مزيدا من التدهور الاقتصادي غير المحمودة عواقبه؟ هل نلجأ لأسلوب وضع الخطط مرة أخرى فنصل لتوافق وطني جديد يتم وضعه على الرف مرة اخرى؟ أم ندرك أن الوقت قد حان لإرادة سياسية تترجم التوافقات الوطنية لخطة مستدامة تعظم الإنتاجية والاعتماد على الذات وتشرك الناس في صنع القرار فتجنب البلاد شرورا كثيرة؟
ليتنا نحصل على أجوبة شافية غير ذريعة التدرج السلحفائي. هل هذا تغريد خارج السرب؟ بكل تأكيد. لأننا نشهد نتائج التغريد داخل السرب كل يوم.
الغد - الثلاثاء 27-8-2019