أبعد من مجرد «إلغاء اتفاقات أوسلو»
إلغاء اتفاق أوسلو، والتحرر من قيوده الصارمة، هو المطلب الأول للفصائل الفلسطينية عند كل حدث أو تطور يطرأ على المشهد الفلسطيني، حتى أننا بتنا نظن أن مجرد من الانسحاب من هذا الاتفاق، سيحل جميع المشكلات التي تواجه الفلسطينيين دفعة واحدة ... والغريب في الأمر أن هذه المطالب، تصدر كذلك عن فصائل عضوٍ في منظمة التحرير ومعظم قادتها وكوادرها وأعضائها مدرجين على لوائح موظفي السلطة ومتقاعديها، وهي بالكاد تقوى على توفير بعض الميزانيات القليلة من هنا وهناك، من أجل إدامة عمل بعض من مكاتبها وأنشطتها الخاصة بها.
ليس ثمة أسهل من توجيه النقد لاتفاقات أوسلو، ففيها من الخروق والشقوق ما يكفي لجعلها خرقة بالية، لا تصمد أمام أول هبّة ريح ... لكن مشكلة الفلسطينيين لا تقع حصراً في اتفاقات أوسلو، والخلاص من الأخيرة لا يعني تلقائياً توفير أنجع السبل لمواجهة التحديات، بما فيها التحديات الداخلية، وليس تلك الناجمة عن الصلف الإسرائيلي والانحياز الأمريكي فحسب.
لا نقرأ كثيراً عن كلفة إلغاء هذه الاتفاقات والتحلل منها، ربما يكون لدى السلطة والرئاسة تقديرات موقف بهذا الشأن ... لا أحسب أن أي من الفصائل، لديه «حسبة» دقيقة لما يمكن أن يؤول عن إلغاء الاتفاقات ... المهم، ثمة نغمة أو «كلشيه» يجري ترديده صبح مساء، وهو يصلح لإراحة النفس والضمير، وإلقاء التبعة على الآخر، والآخر هنا هو فتح والسلطة، مع أن المسؤولية فيما آلت إليه أوضاع القضية الفلسطينية، لا يمكن إلقاؤها على عاتق فريق بعينه، دون غيره، حتى وإن تحمّل هذا الفريق، القسط الأوفر منها.
لا أحد يقول لنا ما الذي سيتغير على الفلسطينيين عشية اليوم التالي لإلغاء الاتفاقات؟ ... هل لديهم خطة استراتيجية بديلة لمواجهة عناوين المرحلة والتحديات؟ ما الذي سيحل بجيوش من الموظفين والعسكريين والأمنيين؟ ... هل سيكونون في وضع أفضل لمقارعة نتنياهو واليمين والاستيطان و»صفقة القرن»؟ ... ربما، ولكن لا أحد يجهد نفسه في توضيح كيف سيكون ذلك، وما الذي يتعين فعله.
هل يمكن أن نتخيل سيناريو استعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية في حال إلغاء اتفاقات أوسلو والتحلل منها؟ ... إن كان الجواب بالإيجاب، فمعنى ذلك أن هذه الاتفاقات هي المسؤولة عن الانقسام، في حين أننا جميعنا ندرك تمام الإدراك أن للانقسام أسباباً جوهرية أبعد وأعمق من أوسلو، ونحن على يقين بأن الانقسام لن ينتهي بعد التحلل منها وإلغائها، بل وربما تكون الدعوة لإنهاء الاتفاقات سيئة السمعة، إنما تندرج في سياق الانقسام والسباق الفصائلي، إذ سيترتب عليها – ربما – إنهاء السلطة بكل مؤسساتها، وخلق حالة من «الفوضى» قد يسميها البعض «حالة ثورية» تساعده على حسم صراعه الداخلي مع الشقيق في الوطن، وليس مع العدو المحتل ... ألم يتداعى نفر من قادة حماس للمطالبة بتسليم السلطة في رام الله لحماس بدل تسليم مفاتيحها لنتنياهو كما «توعد» أبو مازن ذات لحظة غضب؟
إلغاء اتفاقات أوسلو، كحل السلطة الفلسطينية، ليس لها من قيمة من دون أن تكون جزءاً من استراتيجية وطنية بديلة شاملة، عندها وعندها فقط، يمكن القول بكل راحة ضمير فلتذهب اتفاقات أوسلو للجحيم ... من دون ذلك، قد يتحول الحراك الشعبي في الضفة إلى مثيله في لبنان: مطلبي وإنساني في الغالب، وقد تصبح أكبر الحراكات وأكثرها شعبية، تلك التي تطالب سفارات العالم بفتح أبوابها لهجرة الفلسطينيين، أليست هذه هي الحركة الشبابية الأكثر والأعرض اليوم في مخيمات لبنان؟ ... أليس من المنتظر أن يتحول أكثر من 160 ألف موظف، مدني وعسكري، فضلاً عن جيوش المتقاعدين، إلى قنابل موقوتة، وهل من المؤكد أنها ستنفجر في وجه الاحتلال، أم أنها قد تتفجر في سياقات الصراع الفلسطيني الداخلي؟
لتذهب اتفاقات أوسلو إلى الجحيم، ولكن من ضمن رؤية وطنية جامعة واستراتيجية وطنية شاملة، عندها، يمكن تمويت هذه الاتفاقات وإماتة السلطة، حتى من دون إعلان رسمي عن ذلك، تتحمل السلطة والمنظمة أوزاره الدولية والإقليمية ... حينها وحينها فقط، يمكن استدراج إسرائيل إلى حل السلطة وإنهاء الاتفاقات، وتحميلها وزر ما تفعله دولياً وإقليمياً على الأقل ... وهذا خيار يجب التفكير به جيداً، طالما أنه يفضي إلى النتيجة ذاتها، ولكن بقدر أقل من الخسائر وردود الأفعال الدولية والإقليمية.
الدستور -