الحلول السحرية الممكنة
عشرات التقارير المستقلة التي لم تتوقف منذ عقد السبعينيات من القرن الماضي تقدم خبرات وتجارب مجتمعات تجاوزت عتبة الفاقة والجوع والتخلف وانطلقت نحو التحديث وتحسين نوعية الحياة، لم يكن نموذج التحديث الغربي فيها قدرا وحتمية لا بد منه، ولم تكن وصفة الديمقراطية الشكلية هي الشرط الوحيد على ضرورتها، بل كل يوم تثبت التحولات ان الديمقراطية مقاسات متعددة وعلى كل مجتمع ان يرتدي المقاس المناسب له.
في المحصلة ؛ تجمع معظم هذه الخبرات والتجارب ان الاقلاع وتجاوز تلك العتبات أي حجز مكان في العالم المعاصر، لا يتحقق الا بشروط ابسطها ثورة حقيقية من اجل اقتلاع الفساد، ومعادلة جديدة للانتاج والعدالة، ونمط من الحكم الصالح نسميه الديمقراطية أو ما نشاء المهم ان يكون على المقاس يحفظ كرامة البشر وحدا معقولا من حقوقهم.
خلال ثلاثة أيام من المظاهرات في العراق الأسبوع الماضي، قتل 20 شخصا على الأقل وأصيب المئات في اشتباكات مع قوات الأمن في العاصمة بغداد وعدد من المدن والبلدات الأخرى. بعد ان خرج الآلاف للتظاهر إعرابا عن غضبهم إزاء ارتفاع معدلات البطالة ونقص الخدمات وانتشار الفساد، فيما قامت قوات الأمن -حسب وكالات الانباء- باطلاق النار مباشرة على المتظاهرين، كما أغلقت قوات الأمن الطرق والجسور الرئيسية، وفرضت قيودا على الإنترنت، للحد من قدرة المتظاهرين على تنظيم الاحتجاجات عبر شبكات التواصل الاجتماعي، في مصر ثمة جو من الاحتقان والرفض والاحباط جعل رجل أعمال خلافيا وتدور حوله الكثير من الشبهات تحريك الشارع بقوة، المواجهة اخذت طابعها الأمني المعتاد واسفرت عن أكثر من ثلاثة آلاف حالة اعتقال وترحيل أجانب وصحفيين.
في الأردن انهى اضراب المعلمين اسبوعه الرابع، الإضراب الأطول في تاريخ المملكة، وعلى الرغم من محاولة منع الاعتصام في الخامس من أيلول الماضي، فالدولة بكل مؤسساتها ونقابة المعلمين وانصارهما لم يترددوا في استخدام كافة الوسائل المدنية والمشروعة في استقطاب الرأي العام والتأثير عليه، وبالفعل وصلت الأمور في بعض اللحظات إلى حد صعب جدا، ولكن على مدى هذه الاسابيع بقيت النقابة تمارس نشاطها التعبوي والدفاع عن قضية المعلمين بكل حرية واحترام، لم تتكرر حوادث الاعتقال بعد احداث الخميس وتعلم الجميع الدرس جيدا وحافظت المؤسسات الامنية على حيادها بل وفرت الأمن والطمأنينة للجميع وحرصت النقابة الى حد ما على عدم تسييس القضية، بينما تقاسمت الحكومة والنقابة المنابر والإعلام.
ما قدمه الأردن بمؤسساته الرسمية والمدنية والنقابية يستحق التقدير والالتفاف حوله، ويستحق ان نشهد انه وسط كل الظلام الذي يخيم حولنا وحالات التشنج السياسي والنزق الأمني استطاعت الدولة والمجتمع في الأردن تقديم نموذج مختلف ونادر في هذا الجزء من العالم، هذا النموذج ليس وليد لحظة المعلمين والحكومة الحالية بل له جذوره الوطنية في احترام كرامة الإنسان الأردني واحترام تطلعه إلى الأفضل، واخرها المقاربة السياسية والأمنية التي ادارت التعامل الرسمي مع النسخة الأردنية من مرحلة ” الربيع العربي “.
عودة إلى عبارة (نحن لا نملك حلولا سحرية)، وهي عبارة عادة يرددها السياسيون العرب ردا على حالة الرفض والاحباط والاحتجاج التي تجتاح أجزاء كبيرة من العالم العربي وباتت تشبه العدوى المزمنة ؛ تنتقل من مكان الى آخر ثم تختفي لتظهر في مكان جديد، ربما يستغرب البعض القول ان اكثر ما هو ممكن ما بات يسمى الحلول السحرية، بالعودة الى حالة الاحباط العظيم التي تجتاح هذا المجتمع فهي تحصر في المقاربات الثلاث: الكرامة والحكم الصالح، ومعادلة جديدة للانتاج والعدالة، واجتثاث الفساد، علينا في هذه البلاد أن نتمسك بالامل اننا ما زلنا نمتلك الكرامة.
الغد = الجمعة 4-10-2019