الكريم لا يستقصي حكمة بالغة وقول فصل
الكريم المقصود هنا هو الشريف، الإنسان، الواعي، المتسامح، الرسالي، صاحب الهدف، والذي يعمل لما هو أكبر وأعظم، وبالتأكيد إن كان كذلك فسيكون كريماً بالمعنى العام.
والمستقصى هو الذي يوهم نفسه ويزكي منهجه المتمثل بالبحث والتقصي عن كل شيء يعرض له من الأشخاص وأحوالهم، وتفصيلات ما فعلوه وقالوه وينَبّشها نبشاً، ولا يكاد يسمع إجابة عن سؤاله الشخصي ليمطر بسؤال آخر وثالث ولو سمع جواباً شافياً تشكك فيه.
علماً أن طبيعة البشر الخطأ والنقص والزلل إلا من رحم ربك، وإن الكمال لله وحده، وان نبيه بل أنبياءه جميعاً عليهم الصلاة والسلام فيما سوى الرسالة السماوية فهم بشر يخطئون ويصيبون عصمهم الله من الكبائر، وإن الله خلق البشر متفاوتين في كل شيء ليس في الماديات البسيطة إنما في المعنويات المعقدة.
لذلك فكريم الخلق يرضى ببعض المعرفة عن الآخرين ولا يرهق نفسه وغيره باستقصاء التفصيلات ومعرفة الخصوصيات، والتي قال الله قريباً من معناها «لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ»، فليتك لم تسأل عنها ولم تعرفها فقد تسببت بأذى لنفسك ولغيرك.
الله تعالى قال عن نبيه عليه الصلاة والسلام: «عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ»، في قضية اجتماعية حساسة جداً في بيته.
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في صميم علم الاجتماع وبناء المجتمعات: «لا يبلغني أحد عن أحد شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر».
وقد قال الحكماء قديماً في هذا المجال الكثير..
فقال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من لم يتغافل نغصت عيشته.
وقال الاعمش: التغافل يطفئ شراً كبيراً.
وقال الحسن البصري: ما استقصى كريم قط.
وقال جعفر الصادق: عظموا أقداركم بالتغافل.
وينصح ابن حزم قائلاً: احرص أن توصف بسلامة الجانب، وتحفّظ أن توصف بالدهاء فيكثر المتحفظون منك حتى ربما أضرَّ بك ذلك أو ربما قتلك.
وقد وصف بن الأثير صلاح الدين الأيوبي بقوله: وكان صبوراً على ما يكره، كثير التغافل عن ذنوب أصحابه، يسمع من أحدهم ما يكره ولا يُعلِمُه ولا يتغير عليه.
والكيّس العاقل هو الفطن المتغافل
كما قال الشافعي رحمه الله.
وقال شاعر حكيم:
أحبُ من الإخوان كل مُوَاتي
وكلَّ غضيضِ الطرف عن هفواتي
ليس الغبي بسيد في قومه
ولكن سيد قومه المتغابي
ولا أظنكم تجهلون سبب تسمية حاتمٍ (بالأصّم).
إن المتغافل الفطن عكس النبّاش الشكاك المستقصي، فهذا يُقيل العثرات ويقبل العذر وهو مدرك للحال، وذاك يؤزه الشك وحب الاستطلاع، والحرص على معرفة هفوات الآخر، فيهلك نفسه ولا يبقى معه أحداً.
وهذا لا يعني بحال ترك النصيحة أحياناً، ولا يعني أن بعض الاعمال تحتاج لإدراك مواصفات دقيقة ومحددة لمن يمكن أن يختار لها.
وليتفقد كل منا نفسه، وليستقصِ عنها كل شيء والاَّ يتغافل مطلقاً.
وليقبل كل منا من الآخرين ما قدموا به أنفسهم ويتغافل عما سوى ذلك، وذاك يحتاج لميزان الاعتدال والتوسط.
وكان شعار الفاروق عمر رضي الله عنه: «فلست خِباً ولا الخب يخدعني».
السبيل الأربعاء 25/ديسمبر/2019