لماذا تغير طعم الكستناء؟
أعادتنا حبات المطر التي جادت بها السماء نهاية الأسبوع الماضي على مدار ثلاثة أيام لأوقات مضت كانت أجمل؛ عندما كانت الأسرة كلها تتجمع في غرفة واحدة أمام مدفأة فوجيكا أو علاء الدين، وكان إبريق الشاي الأزرق أو الأبيض أو الأصفر متمترسا فوق المدفأة لا يفارقها إلا إذا أرادت الأسرة ممارسة طقوس الشتاء كشوي البطاطا أو الكستنا، التي قد يمر الشتاء كاملا دون أن تنعم بعض الأسر بها لارتفاع ثمنها، ولكن ذاك لم يكن يفرق كثيرا طالما أن الأسرة مجتمعة.
كانت ليالي وأيام الشتاء رغم قسوتها وضيق ذات اليد جميلة، فيها من رائحة المحبة ما فيها، وبين جوانبها ألفة بِتْنا نفتقد معانيها هذه الأيام؛ ولذا ترانا نحنّ لأيام الشتاء تلك كلما بدأت حبات المطر بمداعبة شبابيك بيوتنا، ونستذكر لياليها.
وقت ذاك وعندما كنّا صغارا كانت الحياة أسهل، والتفاعل بين الناس أعذب، وشعور الجار بوجع جاره أكبر، وقتها كانت أغاني فيروز تطربنا عند أول حبات الثلج، فحفظنا تلك الأغاني عن ظهر قلب وباتت عادتنا في كل شتاء، نردد حتى اليوم مع أول حبات المطر (شتي يا دنيا شتي ليزيد موسمنا ويحلى، وتدفق مي وزرع جديد بحقلتنا ويعلى)، كما كنّا نطرب ونحن نسمع صوت فيروز يأتي عبر التلفاز ليخبرنا بقدوم الثلج (ثلج ثلج عم بتشتي الدنيا ثلج) وكانت مسرحيات زمان أكثر متعة، وتلامس وجداننا، وترسم الضحكة على شفاهنا رغم المآسي التي كنّا نعانيها، ولكن كانت اللمة التي تجمنا معا، ونسمع فيها مشاكل بَعضنَا البعض تردم الكثير من مشاكل النهار وتغير مزاج الفقر قليلا، اما اليوم فقد بتنا نتحدث مع أجهزتنا المحمولة بدل الحديث مع عوائلنا، ونادرا نستمع لمشاكل بعضنا البعض، ولذا لم يعد للشتاء ذات المعنى الذي كنا نلمسه أيام زمان، ولم يعد طعم الكستنا هو ذاته، ولم يعد صوت البطاطا وهو على المدفأة يطربنا كما في السابق، فباتت الحياة أصعب، وخيوط التواصل تقطعت.
أيام زمان كنّا أكثر حبا، وأقل سوداوية، كانت قيمة الدينار أكثر بركة، والأسعار أقل بكثير، والناس أكثر مودة، وكانت حبات المطر أكثر ولكن تصريف مياه المطر كان أسهل فلا فيضانات ولا مشاكل تصريف وتجريف، وكانت النخوة والفزعة بين الناس أوسع وأشمل، فالجار للجار ولو جار، وبنت الجيران أخت وزوجة الجار أم، والمودة موجودة.
إذا ما الذي غير حبات المطر؟ لماذا لم تعد حبات البطاطا كما كانت؟ ولم تعد جلسات الشتاء بذات الحب والود والعاطفة؟ لم يعد الدينار يقنع ابننا الصغير كما كان سابقا، ولم تعد أغاني فيروز تتردد على شفاه هذا الجيل كما كانت سابقا، حتى رائحة الشتاء تغيرت، ليس بسبب التغير المناخي فحسب بل بسبب تغير النفوس والأمزجة، والنَّاس.
نعم تغيرنا، بتنا أكثر تشكيكا ببعضنا البعض، أكثر فسادا وإفسادا، أكثر مناطقية وجهوية وتعصبا، وأكثر سوداوية، بتنا نلهث أكثر وراء لقمة العيش ولا نجد لها سبيلا، تغيرنا فتغيرت حبات المطر، تباعدنا، فهجرنا الشتاء ولم يعد يزورنا إلا قليلا، ضاعت منا المودة، فضاعت بيادرنا وحقولنا ومزارعنا، ولم تعد سلة غذائنا كما كانت سابقا، ولم يعد شتاؤنا كما كان.
تغيرت نفوس المسؤولين عنا فلم يعد الهم على المال العام كما كان سابقا فارتفعت المديونية، وزادت البطالة وتوسعت جيوب الفقر، وزاد التضخم وسعر الكاز والغاز والبنزين بات بالعالي.
تغيرت حبات المطر، فلم تعد تملأ سدودنا، وإن فعلت تفيض فتأخذ منا ما تأخذ، وتداهم بيوتنا ومزارعنا، تغيرنا جميعا، فتغير الشتاء والمطر، فبتنا نفتقد جلسات وأغاني وألفة زمان، ونفتقد رائحة الشتاء وطعم البرتقال حتى أن طعم الكستناء قد تغير.
الغد 30-12-2019