النقد الأدبي ووسائل التواصل الاجتماعي
المدينة نيوز: إن مصطلح الفوضى الخلاقة الذي ابتدعه الأمريكان كتعبير عن واقع سياسي واجتماعي، ينطبق هذه الأيام وبلا أدنى شك على الحركة الأدبية والإبداعية، ومعاناتها في بلادنا في كل مساراتها ومناحيها. فهناك حالة من الفوضى والتخبط في كل الاتجاهات. وانقلاب في المفاهيم والقواعد والقيود. وهي أمور لا تبشر بخير، وتطال بالإضافة إلى النتاج الأدبي نوعا ونوعية، كل مجالات حياتنا الإنسانية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية.
وبعيدا عن نظرية المؤامرة التي يتصور البعض أنها وراء كل ما يحدث في بلادنا، فإن هذه الفوضى الخلاقة، أو الأزمة المتوحشة في مجال الأدب والإبداع خصوصا، ليست طارئة أو فجائية في مجتمعاتنا، بل هي نتيجة طبيعية لفشل كل مشاريع الأحزاب الوطنية واليسارية التقدمية في بلادنا، ولانكفاء المثقفين والنخب، وتقوقعهم على ذواتهم وأنانياتهم. وقد بدأ ذلك بالظهور للعيان بوضوح شيئا فشيئا وفي تطور تصاعدي منذ الاجتياح الصهيوني لبيروت عام 1982، الذي تسبب بانكسارات على كل المستويات الفكرية والإنسانية، لم تستطع مجتمعاتنا إلى يومنا هذا استيعابها وتخطيها. وإذا كان أفلاطون قد أخرج الشعراء من جمهوريته لخطرهم على أبناء المجتمع المثالي، الذي أراد بناءه.
فإن الشعراء والكتاب اليوم يردون له الصاع، ويقومون بثورتهم، بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، والشبكات العنكبوتية. ويقتحمون المجتمعات ويدخلون كل العوالم. ويصبحون في هذا الزمن من الكثرة بمكان. فكل من صاغ بضع كلمات، ووضع لها قافية، لقب نفسه، أو لقبوه شاعرا. بدون أن ينسى أصدقاؤه أن يضيفوا إلى هذا اللقب الأوصاف المختلفة مثل: المبدع، الكبير، العظيم، الرائع، إلخ. وكل ذلك من قبل أن يكون له ديوان شعر واحد، وأحيانا مجرد قصيدة كاملة. ويكفي أن نلقي نظرة على وسائل التواصل الاجتماعي، لندرك أن هناك جيلا كله شعراء وأدباء، أو فلاسفة ومفكرون، ومحللون سياسيون!
فمع دخول وسائل التواصل الاجتماعي إلى عوالمنا ومجتمعاتنا، كان الأمل أن تقدم لنا هذه الشبكات العنكبوتية، جديدا في عالم الأدب شعرا ونثرا ومسرحية. وتسهم بشكل إيجابي في تطور النتاج الأدبي بأنواعه، وفي ازدهار الحياة الأدبية في بلادنا، إلا أن الإبداع في بلادنا، كما في العالم أجمع دخل مرحلة جديدة، ومربعا آخر، حيث كان لهذه الشبكات العنكبوتية على مجتمعاتنا أثر المفاجأة والصدمة في آن معا. فكانت بالنسبة لكثيرين ككائن فضائي مجهول اللغة والهوية. وبصريح العبارة لم نكن في بلادنا مستعدين لاستقبالها، واستخداماتها بالطريقة الصحيحة التي تؤدي لنا ولمجتمعاتنا الفائدة المرجوة. ومع الانتشار السريع لهذه الوسائل، تحولت إلى إعلام مواز مسيطر، وأصبح بمقدور أي إنسان أن يكتب ويقول ما يريد بدون رقيب أو حسيب، وبلا أي ضوابط وقواعد، لا علمية، ولا أخلاقية، ولا حتى مجرد التزام إنساني.
تشهد ساحات الشبكات العنكبوتية يوميا معارك ضارية حول نص أو قصيدة، غالبا ما تنتهي بنشر غسيل وسباب وشتائم، لا تليق بعالم الأدب والكلمة.
وقد كشف استخدام هذه الشبكات بلا شك عن مواهب كثيرة ومهمة في عالم الأدب في بلادنا، ولكنه كشف في الوقت نفسه عن خواء، وهبوط، وضحالة مستوى النتاج الأدبي على كل المستويات لدى كثيرين، خصوصا لدى بعض الكبار. وكشف بالتالي عن كثير من المستور، وأدت هذه الشبكات إلى سلبيات أكثر بكثير من الإيجابيات، من أهمها:
أولا: نمو السرقات الأدبية على أنواعها، وادعاء النص الواحد من قبل كثيرين. يقوم بذلك أحيانا من يحملون في عالم الأدب والكتابة أسماء كبيرة، كما الصغار على السواء. وتشهد ساحات الشبكات العنكبوتية يوميا معارك ضارية حول نص أو قصيدة، غالبا ما تنتهي بنشر غسيل وسباب وشتائم، لا تليق بعالم الأدب والكلمة.
ثانيا: استباحة قواعد اللغة وتهديم قلاعها، حتى غدونا أمام لغة هجين مفلطحة. تداخل فيها العامي بالفصيح، والأجنبي بالعربي.. لا يُعرف فيها الفاعل من المفعول، ولا المنصوب من المجزوم. لغة غريبة تركيبا ونحوا وإملاء وانتماء، مفرغة من مضامينها، ولا يوجد لها أي مرجعية في قواميس اللغة العربية.
ثالثا: تضخم الأنا عند كثير من المبتدئين في عالم الأدب والكتابة شعرا أو نثرا. نتيجة لكم الإعجاب (اللايكات) التي يحوزون عليها. وعمليات الإطراء والمديح التي تكال لهم بلا حساب من أصدقائهم وأقربائهم على هذه الشبكات. وأحيانا ممن يدعون النقد، وهم لا يملكون في الأساس الذائقة الأدبية، ولا أدوات النقد والمعرفة بمناهجه. بغض النظر إن كان أولئك الشعراء والكتاب يستحقون الإطراء والمديح والتصفيق أم لا، ما جعل الأمور أكثر تعقيدا. وأصبح من الصعب، بل المستحيل توجيه أي نقد منهجي لنتاجهم وتقييمه، لا اليوم، ولا مستقبلا. وأصبحوا يرون في أي نقد منهجي ولو كان بسيطا مجرد سكين لذبحهم، أو إقصائهم على أقل تقدير.
ومما زاد الطين بلة في هذا المجال أيضا، هو قلة النقاد الجادين على الساحة الأدبية، بعد إقفال كثير من الصحف التي كانت تجمعهم على صفحاتها وأعمدتها. وأصبحوا بالكاد موجودين هنا وهناك، عبر بعض الصحف الإلكترونية، فحرم الأدب بالتالي من وجود بوصلة توجه الكتاب والشعراء الجدد، خصوصا مع تناقص البرامج الثقافية المتلفزة، التي كانت تساهم إلى حد كبير في تربية وتنمية الذوق الأدبي لدى المشاهدين، وتوجيه الأقلام والمواهب، وترد أيضا على كثير من الأسئلة حول كل ما يخص النتاج الأدبي بأنواعه أيضا.
إننا اليوم أمام ظاهرة يخاف كثيرون التعرض لها، ويفضلون عدم رؤيتها، وترك الحبل على غاربه. ظاهرة فرضت نفسها على عالم الأدب والإبداع خاصة، ومجالات حياتنا عامة. وتحتاج منا جميعا أن نقف عندها، والقيام بدراستها بشكل جاد، وأن نضع قواعد وضوابط لكل ما يصدر عنها من إبداع أدبي بأسرع وقت ممكن، من قبل أن يغدو الأمر كما يقولون في المثل « شوربة ». ومن قبل أن تستفحل الأمور أكثر. ويصبح عندها من عاشر المستحيلات ضبطها. وأعتقد أن ذلك لا يتوقف على وسائل التواصل الاجتماعي فقط، بل يشمل أيضا ما تنشره بعض الصحف الورقية، التي ما زالت تقاوم، وتدافع عن وجودها. ولكنها تأثرت إلى حد كبير بأجواء الشبكات العنكبوتية، من حيث مستوى ما ينشر على صفحاتها للأسف.
وبالنسبة لكثير من الشعراء والكتاب الجدد، الذين يمارسون النشر على وسائل التواصل الاجتماعي، ومواقع الإنترنت المختلفة. عليهم أن يعوا ويدركوا، أن عملية تنميق وتدبيج الجمل الإنشائية، والعبارات، التي ينشرونها على صفحاتهم ليست في كثير من الأحيان شعرا، ولا تشبهه… وأن الخواطر، والجمل الإنشائية حول حدث ما، أو ذكريات قديمة مرّت بهم، ليست بالعمل الروائي، بل هي في أساسها تكملة لما كانوا يفعلونه في فصولهم المدرسية. وأنّ الألقاب التي يطلقها عليهم أصدقاؤهم، ما هي إلا مجرد مجاملات، لا تجعل من الحائز عليها شاعرا، أو كاتبا، ولا تمت للواقع بصلة. وأن ما يقوم به بعض القيمين على الصفحات الأدبية المنتشرة على الشبكات العنكبوتية، من توزيع لشهادات وجوائز معنوية، لا يخرج عن هذا النطاق أيضا.
٭ كاتب لبناني: خالد بريش ـ القدس العربي