بين الحقيقة والوهم
ما يُحصِّله الإنسان من مناصبَ أو مراتب أو علوّ أو رفعة أو جاهٍ أو مالٍ، فذلك وهمٌ لا حقيقة له، وهو أشبه ما يكون بمن صبغ شيب رأسه، فما تلبث هذه الصبغة أن تزول، ويرجع الشيب للظهور، ومهما عاش هذا الإنسان بالوهم، واستمتع به، فإنه لا بدّ صائرٌ إلى الحقيقة، وهي أنه بشر كسائر البشر، يموت ويحيا، ويمرض ويتعافى، وكل تلك النِّعم أو الهيئات أو الصّور، ليست أكثر من وهمٍ يلازمه، إما أن يفارقها أو تفارقه.
على الإنسان أن يدرّب نفسه ويحملها على التواضع حتى يقيمها مقام العبودية، لئلا تنازعه نفسه صفات الربوبية، فيصعب عليه الرجوع إلى حقيقته، وهي أنه عبدٌ لله، ويعيش في الوهم حتى يغرق في أوحاله، ولا يقدر على الخروج منه، فيصاب بالخبل أو الفصام أو الجنون؛ لأنه إن بقي في مكانه، ظنّ أنه حيٌّ لا يموت، وأنه على كلّ شيء قدير، وهو بهذا ينازع الله تعالى في صفاته، وهذا خبل وجنون. وإن أزيح عن مكانه فإنه سيصعب عليه أن يتقبّل العودة إلى عبوديته بعد أن نصّب من نفسه إلها قادرا، فيصاب بالفصام أو الخبل.
المالُ والجاهُ والسلطان ليست أكثر من رزق ساقهُ الله إلى الإنسان، وهي في نفس الوقت ابتلاء وامتحان، فإن عاش الإنسان معها على حقيقته، مدْرِكًا أنها أمانات في يده، وأنّ صاحب الأمانة سيستردّ أمانته في أيّ وقت يشاء، كان الإنسان مرتاح البال والخاطر، يعيش متواضعًا مهما علا منصبه أو زادت ثروته.
معالي الشيخ صالح الحصيِّن رحمه الله تعالى، وزير دولة سعودي سابق، وعضو هيئة كبار العلماء، يُحكى أنه لما كان الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، وقف أمام المصعد الخاص بعامة الناس ليصعد من خلاله إلى مكان عمله في الطابق الخامس، ولم يكن يستعمل المصعد المخصص له، سأله أحد الأشخاص: إلى أيّ طابق تتوجّه؟ فأجاب: الخامس، فقال له: ممكن تأخذ هذا الفول والتّميس إلى فلان في الطابق الخامس، فقال: نعم ممكن، وبالفعل أوصل الشيخ صالح رحمه الله وجبة الفطور لصاحبها، فلامه من حوله على هذا الفعل، وقالوا: التواضع زين، لكن ليس إلى هذا الحدّ، فأجاب: أين التواضع في الموضوع؟ نحِّ لقب رئيس شؤون الحرمين، أنا إنسان جاءني إنسان وطلب مني إيصال أمانه إلى إنسان في طريقي، شيء عادي جدا أن أساعده، أين التّواضع في ذلك؟ عيشوا الحقيقة واتركوا الوهم.
الدستور