"لا تعذليه"
المدينة نيوز: ليست الصحراء هي المسؤولة عن مقتل صاحب العينية الشهيرة ابن زريق البغدادي. أحياناً يقف الإبداع على أطراف حواف قاسية، لكنّها هشة وتُكسر. فلا يحتاج الموت إلى أسلحة ولا الحرب إلى الكثير من التكتيكات العسكرية حتى تشنّ، فالموت قد يكون نتاج كلمة أو موقف وحيد، والحرب هي الحياة حين تسود غيومها الرمادية، ثقيلة محملة بالفقر والعوز.
قيل عن ابن زريق بأنه شاعر الواحدة، وقصيدته يتيمة، وبأنه عبقري بحكم خلود وديمومة صيت قصيدته إلى هذا اليوم، وبالرغم من اهتمام شعراء عصره بقصيدته، فالكثير منهم عارضها أو كتب عنها أو حفظها، وبذلك تناقلها التاريخ وحفظها، حتى قال عنها ابن حزم الأندلسي "من تختم بالعقيق، وقرأ لأبي عمرو وتفقه للشافعي وحفظ قصيدة ابن زريق فقد استكمل الظرف"، إلا أنّ موت ابن زريق وهو يحتضن كلماته الملتهبة تعكس ما هو أبعد من حب مات صاحبه وحفظه الشعر.
ما قتله فعلاً واتُّهم الحب واتُّهمت الصحراء الخاوية هو خيبة أمله بأن يجد تقديراً يليق ببلاغة شعره ومشقة سفره بُغية تيسير حياته بعدما عانى الفقر والحاجة ورحل تاركاً في بغداد حب روحه، زوجته التي حاولت استبقاءه، لكنّه عزم على الرحيل قاصداً الأندلس ليلتقي أميرها أبا الخير عبد الرحمن الأندلسي، وامتدحه بقصيدة ظنّ أن بها من البلاغة ما يسعفه لفك كربه، حتى حطّ الأمير من قدر قصيدته حين خالف توقعات ابن زريق وأعطاه عطاء قليلاً.
الفقر وعزمه على أن يجد حلاً في البُعد والسفر وقلة التقدير كلّها أسباب جعلته يقصد الموت كمطاف أخير، أما الحبّ فقد كان خيط نجاته الوحيد الذي ما استطاع أن يصمد أمام القهر فمات ابن زريق متوسداً قصيدة تحمل حباً عظيماً، تركها إرثاً وحيداً لزوجته ولعشاق الشعر.
هذا الأمر لم يزل سائداً، مآسي الإبداع والآمال تتّخذ عدداً لا ينتهي من الأشكال، وربما اليوم تصل إلى ذروتها، ليس بالضرورة أن يرحل شاعر ابتغاء مرضاة أمير مقابل فتات حياة، جرائم الإنسانية تتّخد أسماء مختلفة وتكتسي صفات مشروعة.
البعض يموت وآخر يشيخ ومنهم من يختار العيش في منفى رحيم يُبعدهم عن خيبات لا تليق بهم تصدياً منهم لهزائم روحية قد تصيبهم بمقتل من إهمال النقاد والإعلام وحتى القراء، ليعيشوا بعيداً في أحضان أوراقهم وأفكارهم الممتلئة بالحياة.
يقال إنّ أمير الأندلس في قصة ابن زريق تأثر بموته، وبأنه لم يقصد الحط من قصيدته بل أراد اختبار طمعه، أهناك من أمراء أو أولياء الحياة وأصحاب النفوذ في أي ميدان اليوم، من يتأثر لموت أحد تخلّت روحه عن جسده بعد أن مات فيه الأمل.
لا تعذلوا إذاً من هجر نفسه ودوافعه وما عاد يسعى لأن يُنجِز ما كان يتوق إليه، فهناك أشياء ترحل ولا تعود وإن بقي أصحابها أحياء فهم يتجولون في متاهات الدنيا وهو آخر ما تبقى لهم.