”قطارات تحت الحراسة المشددة“ .. للمتقاتلين دمعة واحدة
المدينة نيوز: يوصّف الكاتب التشيكي بوهوميل هرابال، أوضاع المدن والإنسان خلال الحرب، باتخاذه محطة القطارات، لتكون منصة سرده للأحداث، في رواية“ قطارات تحت الحراسة المشددة“ التي صدرت الطبعة الثانية منها 2018، عن دار المتوسط بالمشاركة مع دار الفارابي للنشر والتوزيع، وبترجمة من الشاعر بسام حجار.
وتصف أحداث الرواية أوضاع مدينة براغ التشيكية في عام 1945، في وقت بدأ فيه الجيش الألماني فقدان سيطرته على المدينة.
وتدور جميع الأحداث في محطة القطارات، وبتواجد مركّز للشحصيات الثلاث، ميلوش العامل المتدرب، لانسكي مدير المحطة، والسيد هوبيكا.
ذبول الزنبقة
وتتدرج الرواية على بعدين أولهما: نفسي، فميلوش الشاب العشريني، بينما يبدأ حياته يتعرض لموقف يهز ثقته برجولته، ويدفعه إلى محاولة انتحار فاشلة، تُخلّف ندبتين على رسغيه، فتلازمه عقدة ”ذبول الزنبقة المفاجئ“، وهو مثل شعبي نرويجي يدلل على العجز الجنسي، وقد تشكك من ذلك بعد محاولة غرامية مع حبيبته ماشا.
لكن ميلوش البطل يستعيد هذه الثقة بصدفة غرامية مع سيدة عابرة للمحطة، ومن بعدها يعرف معنى رجولته، ويقدم على مقاتلة قطار محمل بالجيش والذخيرة الألمانية، وحده.
أما البعد الثاني فهو مكاني، فجميع أحداث الرواية تدور في مكان واحد، وهو محطة القطارات، وهو ما يتطلب من الكاتب اتباع السرد البطيء لإتمام 113 صفحة من القطع المتوسط.
فاتبع هرابال سياسة السرد الوصفي الدقيق للأشياء، ومضت الأحداث البسيطة في المحطة بحركة بطيئة، فلم يكن الرهان على تتابع الأحداث، بقدر التحليل الداخلي للحدث، والتغول في أعماق الشخصيات، على هامش حدث كبير يمضي في الخلفية، هو الحرب.
تشريح
إن أزمة ميلوش هي حراك اجتماعي صامت، لا يتم الإفصاح عنه في الواقع، لحساسية الأمر، وتبقى جدلية إقران الرجولة بالقدرة الجنسية هي الفكرة السائدة في الوعي الإنساني.
وقد ركّب هرابال هذه الشخصية، ربما لتشريحها أدبيا أمام العالم أجمع. فيبين كيف أن ثقة ميلوش قد تفعلت بفضل رؤية امرأة واحدة لرجولته. فهل اعتزاز الرجل بمكانته يقتصر على المرأة، ويتخلى عن كل المعايير الأخرى في الكون؟ هذا ما يجب تحريكه في الوعي، وإثارة الأسئلة حوله.
ويكتب هرابال عن جانب آخر للحرب، فما وراء النار يختلف كثيرا، إذ يقوم الكثير من الناس بالعيش على الخردة التي تتساقط من الطائرات، والقطع التي تنتج عن تحطم ناقلات الجنود، والطائرات هي مصدر ربح للفقراء خلال الحرب. فلا حدث يتم في العالم، دون تكيف مقابل، من الإنسان.
اختزال
ويتبع هرابال لغة سردية بسيطة، هي أقرب للنقل المونولوجي، إذ إن جميع الأحداث نقلها على صوت ميلوش البطل. فكان هو الراوي، وكان هو المحلل للشخصيات، وكان هو الواصف لكل حركة أو صوت في الرواية.
ولم يقم الكاتب التشيكي بتفصيل لصفات الشخصيات، حتى بطل روايته ميلوش، فما أعطانا إياه حوله، اقتصر على تاريخ عائلته، حيث إن جد أبيه كان يهوى جمع الخردة من الأرصفة، وجدّه حاول منع الألمان وحده من دخول المدينة، بالتنويم المغناطيسي، وقد قتل أخيرا، أما أبو جده فكان يعمل في الجيش، وصار معطب القدم، مكملا حياته على راتب تقاعدي.
أصوات
وعلى النقيض كان هرابال يميل إلى تفصيل في وصف المكان، كنهج كلاسيكي.
كما وضح اهتمامه بالأصوات، وفرز أنواعها، ووضْع توصيفها اللغوي الدقيق، فتنوعت الدلالات اللغوية في الأذن والحواس، بتنقله بين صوت القصف، وحركة الهواء، والحمام في الأقفاص وخارجها، وكذلك حركة أقدام الإنسان.
وتبرز الرمزية في الرواية في مواقف متعددة، وهو ما يزيد من قوة السرد وأثره في الوعي. بينما تظهر قدرة التشيكي هرابال في نقل القارئ إلى أبعاد في سياقات مختلفة عما يحدث، فمثلا، هنالك تجريدية لامعة في وصفه لميلوش وهو يقبّل ماشا، بينما سلك فاصل، ممتد على مساحة شاسعة، يفصل بينهما.
فالسلك الشائك دلالة على الحرب، وأيضا، على الافتقار للحرية. وما يدور من أحداث على جانبي السلك، هو أزمة الحياة.
عبث
وفي وصف هرابال لمشهد الجندي الألماني وميلوش، تدلل رمزية الموقف على عصارة حروب كثيرة خاضها الإنسان، ولايزال يخوضها.
فالرسالة المعلقة بين جسدي الجنديين المتقاتلين، بعد أن خارت قواهما، وتمددا إلى جانب بعضهما، ثم تشابكت يداهما، هي مغزى العمل السردي الأهم، فيكتب هرابال بصوت ميلوش ”ما كنت أتمنى لهم أن يموتوا، بل أن يعودوا إلى زوجاتهم، وخطيباتهم، اللواتي تكلمن معهم من هنيهة لآخر مرة“.
ويتحدث الكاتب التشيكي بإنسانية مفرطة عن الحرب، والدافع الوحشي لها، ويعري فلسفة الجيوش التي تقتل الإنسان، ففي أشد لحظات الحرب بؤسا، يفكر ميلوش وهو يقاتل بدموع أم الجندي المقابل، ولحظات انتظارها من خلف الستائر. وكذلك خوف زوجات الجنود في الطرف الآخر، اللواتي لا ينمن وينتظرن جميعهن خلف ستارة واحدة، هي القلق.
رسالة
ويحاكي ميلوش، دون حوار، ذلك الجندي الألماني الممدد إلى جانبه ”أنا على ثقة، لو أننا تقابلنا في الحياة المدنية، لكنا أحسسنا بالود المتبادل، ولكنا تبادلنا أطراف الحديث“.
وفي مشهد ختامي مؤثر، يغلق هرابال ستائر سرده بكلام ميلوش المصاب وقد تمددت جثة الجندي الألماني إلى جانبه ”حين بدأت أتلاشى عن نفسي، أبقيت يدي في يد هذا الميت، أردد عليه: ما كان عليكم سوى أن تمكثوا جالسين على أقفيتكم في بيوتكم“.