الأردن والتحديات الداخلية
تمر في حياة الأمم والشعوب مناسبات خالدة لها مكانتها في النفوس، أياماً تتوقف عندها مليا، فتنظر في انجازاتها وتطلعاتها، وتستذكر نضال وتضحيات قادتها ورجالاتها، وتستلهم ما فيها من دروس وعبر، وتراجع مسيرتها وتسعى إلى إصلاح ما اعوج من أمرها، وتواجه الحقائق بكثير من الصراحة والتعمق والتبصر، وهي تتطلع إلى المستقبل لتحقيق المزيد من النجاح والإنجاز والظفر والنصر.
في هذه المرحلة المفصلية الحاسمة في مسيرة المشروع الوطني الأردني فإن أمانة المسئولية وشرف الواجب وصدق الانتماء يدفعنا إلى القول إن ما تحقق عبر هذه المسيرة الطويلة من إنجازات يجب أن لا يحجب عن البصائر والعيون بعض ملامح المشهد السياسي الأردني، إذ أن إلقاء نظره شاملة سريعة على بعض مظاهر الخلل الذي شاب المسيرة من أجل البحث الجدي المخلص عن العلاج سوف يسهم في الحفاظ على المنجزات ويمهّد الطريق نحو تحقيق المزيد.
إننا اليوم نقف على أبواب مرحلة جديدة نواجه فيها أزمة داخلية وتحديات وأخطار خارجية في منطقة لعلها الأقل استقراراً في العالم، حيث لم تتوقف القوى الخارجية المهيمنة يوماً عن التدخل في شؤونها، وتسعى اليوم إلى إعادة رسم خريطتها وتشكيل دولها على النحو الذي يخدم مصالح وأهداف هذه القوى المهيمنة .
إننا نقف على مفترق طرق نرى أن الحفاظ على الاستقلال يستلزم جهداُ يفوق الجهد الذي بذل في تحقيقه وإن بعض ملامح الأزمة الداخلية التي سنتناولها في هذه العجالة نأمل أن تكون دافعاً لمزيد من العمل والأمل والثقة والأخذ بأسباب النجاح، لا اليأس والفشل وإن المصارحة والمكاشفة هي طريق النجاح والرائد لا يكذب أهله وصديقك من صدقك، فالنفاق والكذب والتزييف ألد أعداء الإنسان والحليف الطبيعي للتخلف والظلم والشر، وبناءً على ذلك نستطيع القول أننا كدولة وكمجتمع نقف اليوم على أعتاب مرحلة جديدة نعاني فيها من مجموعة من الأزمات كل واحدة منها كفيلة بتهديد حاضرنا ومستقبلنا فكيف إذا اجتمعت هذه الأزمات كلها في نفس الوقت، وتالياً عرض لأبرز هذه الأزمات:-
1- أزمة الثقة:-إن ضعف الثقة بالدولة ومؤسساتها وما يترتب عل ذلك من مساس بهيبة الدولة يستلزم إعادة تقييم المسيرة في عدد من المحاور الأساسية وذلك على النحو الذي ورد في خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين بمناسبة مرور عقد على تولي جلالته سلطاته الدستورية، وبالتالي لا بد من استعادة ثقة الناس بالدولة ومؤسساتها وهذا لن يتحقق في ظل عدم احترام القانون وغياب العدالة وغياب الشفافية والنزاهة وانتشار الفساد.
2- أزمة النخبة :-فالنخبة السياسية اليوم أصبحت عاجزة تماماً عن استلهام رؤى وتطلعات القيادة واستحقاقات المرحلة القادمة لدرجة يمكن القول أن النخبة السياسية الأردنية اليوم تعاني من إفلاس وغياب في الرؤيا وانعدام في المصداقية وفقدان ثقة الجماهير واحترامها ولا سيما أن مواقف هذه النخبة قد اتسمت بالانتهازية والمزايدات والشعارات، فأصبح انسحاب هذه النخبة من العمل السياسي مصلحة وطنية فالمرحلة الجديدة تحتاج إلى برامج وأفكار وقيادات من نوع جديد، وتمتلك رؤية واضحة للمستقبل.
3- أزمة الثقافة والقيم:- فأنماط القيم والثقافة والسلوك السائد في المجتمع هذه الأيام بعيدة وغريبة عن تراث المجتمع الأردني وتاريخه، فالسلبية والعزوف والخوف والشك والتردد والصمت والابتعاد عن الشأن العام هي جميعاً أبرز عناوين أزمة الثقافة والقيم. والثقافة تلعب دور يفوق دور السياسة في التأثير على السلوك الإنساني وبشكل عام نقول أن المغترب داخل مجتمعه والخائف في وطنه والمتردد في سلوكه لا يصنع مجد ولا يحمي وطن ولا يحقق تقدم أو تنمية.
4- أزمة الأولويات:- ففي زحمة المشاريع والمبادرات والأفكار والمهرجانات لم يعد الناس على وعي تام بالأولويات الوطنية ولعل أبرز مظاهر هذه الأزمة هي إشغال الناس بالمسائل الثانوية بدل من القضايا الجوهرية التي تمس وجودهم وحاضرهم ومستقبل أجيالهم ولعل تزييف الوعي ونشر الوهم الفارغ هو من أبرز ملامح أزمة الأولويات التي نعيشها هذه الأيام.
5- أزمة الهوية:- فالسؤال الأخطر الذي لا زلنا نبحث عن الإجابة عنه هو من نحن، وكيف نعرف أنفسنا ولا بد من تضييق الفجوة الآخذة بالاتساع بين الانتماءات الفرعية والهوية الوطنية الأردنية ولا سيما أن هذه الهوية تواجه الآن مشروعاً خطيراً بدأت ملامحه بالظهور في التصريحات هنا وهناك.
6- الأزمة الاقتصادية:- فالدعوات المتطرفة التي تنادي برفع يد الدولة كلياً عن الاقتصاد وترك سفينة الاقتصاد الوطني تسير وفقاً لما تمليه رياح السوق وتتعامل مع الوطن بمنطق الشركة دليل واضح على عمق الأزمة الاقتصادية ذلك أن دور الدولة الاقتصادي دور حيوي ومركزي لا غنى عنه، والخصخصة ليست قدراً حتمياً لا مفر منه حيث أن تحديث مؤسسات الدولة ومعالجة أوجه الضعف والقصور التي أدت إلى تعثر البعض منها هو البديل الأمثل لمواجهة بعض ملامح الأزمة الاقتصادية، فالأردن ليس هونج كونج أو سنجافورة ولا يمكن أن تنجح فيه أية وصفات جاهزة تغفل خصوصيته وهويته وتاريخه الاقتصادي.
7- أخيراً الفساد الذي أصبح كالسوس ينخر جسد المجتمع فبالرغم من تعدد الهيئات واللجان والمؤسسات إلا أنه لم يتم القبض على سمكة صغيرة وليس حوتاً من حيتان الفساد حتى الآن، الأمر الذي يولد الانطباع بأن مؤسسة الفساد أصبحت الأكثر قوة وتنظيماً ولا سيما أنها مسلحة بكافة أدوات القوة من مال ودعاية وشبكة علاقات تربط أصحاب المصالح المستفيدين من هذه المؤسسة.
أخيراً ما العمل وهل ثمة أمل في تجاوز هذه المرحلة ؟
بالرغم من بعض الجوانب السوداوية للمشهد السياسي الأردني إلا أن هناك عناصر قوة وبواعث أمل تجعل مواجهة استحقاقات المرحلة القادمة أمراً ممكناً ولعل أبرز عناصر القوة والأمل تتلخص على النحو التالي:-
1. قيادة سياسية شابة محنكة ولديها رؤية واضحة لمستقبل المنطقة وتنتهج سياسة عقلانية وسطية تفهم لغة العصر وتتحدث باسم العرب في المناسبات والمحافل الدولية.
2. شعب متعلم شاب متمسك بالثوابت الوطنية والقومية لا يقبل المساومة على الثوابت أو الحقوق ويتطلع إلى مستقبل أكثر أمن وثقة وأقل هموم ومعاناة.
3. علاقات خارجية متميزة مع مختلف قادة وشعوب العالم يمكن أن توظب لخدمة المصالح الوطنية والمصالح القومية العربية.
4. تجربة ديمقراطية رائدة في المنطقة قابلة لمزيد من التقدم والتطور باتجاه إقامة مجتمع المواطنة الحقة والعدالة والمساواة وإنشاء دولة القانون والمؤسسات على أرض الواقع وليس مجرد شعارات تزين الوضع ولا تغيّر الواقع.
أما على الصعيد الخارجي فإن أبرز مباعث الأمن والأمل هي نجاح قوى التغيير في العالم وسقوط المحافظين الجدد، فالإدارة الأمريكية الجديدة لديها رؤية جديدة في التعامل مع المنطقة وتعتمد على أسس جديدة أبرزها احترام خصوصية شعوب المنطقة والعمل على تحقيق المصالح المشتركة للعرب والولايات المتحدة ولعل أبرز عناصر القوة في هذا المجال على صعيد الأردن التأكيد على حقيقة أن ما يخدم الأردن يخدم المنطقة بشكل عام ويخدم كذلك مصالح الولايات المتحدة الأمريكية وليس العكس.
أخيراً يمكن القول أن مواجهة الأزمة الداخلية سواء على صعيد المجتمع أو الدولة سوف يسهم في تعزيز المكانة الخارجية للأردن على الصعيدين الإقليمي والدولي وهذا بطبيعة الحال يستلزم التوقف بروية أمام ما سبق عرضه من تحديات أو أزمات داخلية ويستلزم وقفة جادة من الحريصين على مسيرة هذا المشروع الوطني العروبي النهضوي ذلك أنه لا مجال للتردد والانتظار وتجارب الأمم والشعوب أثبتت أنه لا يحافظ على الدول بالأمنيات والدعوات والكلام، ونأمل أن تبقى هذه الأفكار حية في الذهن والذاكرة دافعة للأمل والعمل والإنجاز وأن تكون إيذاناً ببدء مرحلة جديدة في المسيرة الخيرة التي انطلقت منذ ما يقارن تسعة عقود نسعى لاستمرارها وتطويرها في تحقيق طموحاتنا وأحلامنا وآمالنا ذلك أنه لا بديل عنها، ولا مساومة عليها وقد اخترنا السير فيها حباً وطواعية وهذا موقفنا الثابت سراً وعلانية