نخسر جميعا إذا «اختنقت» الصحافة الورقية
نريد، اقصد الصحفيين الغيورين على مهنتهم، ان نبرئ ذمتنا أمام الله والتاريخ والناس، ونصارح المعنيين في بلدنا بأن الصحافة الورقية مهددة بالإغلاق، وتكاد تلفظ أنفاسها الأخيرة، ليس لأنها استقالت من مسؤوليتها او قصرت بحق جمهورها فهي ما زالت تصدر وتقف مع الدولة لمواجهة جائحة كورونا التي داهمتنا، وانما لأنها تجد نفسها الان «وحيدة» ويتيمة، فقد خذلها مسؤولون من الذين كانت تشاركهم في خدمة البلد، بل وتعمدوا «خنقها»، وكأنها لا تمثل مؤسسات وطنية تحتاج للدعم والمساندة، وقبل ذلك لحقوقها التي ضاعت في الأدراج.
على مدى نصف قرن واكثر، ظلت الصحافة الورقية (الدستور والرأي تحديداً) تحمل قيم الدولة ومبادئها، وتتبنى هموم الناس وقضاياهم، ورغم العواصف التي مرّت بها في ظل حكومات حاولت ان تنتزع منها حريتها واستقلاليتها الاّ انها ظلت «صامدة» على حدود المهنة الشريفة، باعتبارها الناطق باسم الوطن والمدافع عن وجوده وحدوده، والضمير الحيّ الذي لا يباع ولا يشترى بأي ثمن.
الآن، تغيرت الصورة، وأصبحت هذه الصحف تعاني من ازمة خانقة، خاصة بعد قرار الدفاع بوقف طباعتها، ازمة افقدتها قدرتها على الحركة والالتزام بواجبها تجاه موظفيها، صحيح ان ما يحدث كان جزءاً من محنة قديمة لها اسبابها، لكن الصحيح هو انها الان وجدت نفسها وحيدة بلا سند ممن وقفوا حتى الان متفرجين أمام ما يحدث والتعامل مع هذه المؤسسات وكأنها مؤسسات «ثانوية» او طارئة، وليست من الاذرع المهمة.
يمكن ان نناقش القضية بعمق حين ندقق فقط في عنوان «الدعم » الذي توليه الحكومات لبعض القطاعات التي تضررت، فيما يتم ادراج المؤسسات الصحفية تحت عنوان « دبروا حالكو »، ويطلب منها ان تقلع اشواكها بيديها،،المؤسسات الصحفية يا سادة ملك للدولة، وليست مؤسسات خاصة، ويفترض ان تحظى أسوة بغيرها بما تحتاجه من دعم وتسهيلات تساعدها على ان تقف وتصمد وتطور نفسها ايضاً.
لماذا يتم التعامل مع الصحافة الورقية بمنطق «الخنق»، او عدم الاهتمام على الأقل؟ ربما يعول البعض على «البديل» الذي تمثله المواقع الإخبارية ووسائل التواصل الاجتماعي، لكن هل يمكن لأحد ان يقنعنا بأن هذه الوسائل الجديدة قادرة على حمل رسالة الدولة، او حفظ الذاكرة الوطنية، الا يعترف هؤلاء بأن هذه الفضاءات الإخبارية لا يمكن التحكم فيها، وان القوانين ما زالت عاجزة عن ضبطها من حالة الفوضى التي تعانيها، ربما يعتقد اخرون ان الصحافة الورقية انتهت صلاحياتها، وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة، وبالتالي لا فائدة من اسعافها، هذا غير صحيح فلا يوجد دولة في العالم بلا صحف ورقية، ولا بديل يمكن ان يملأ فراغها، تماما كما حدث للإذاعة حيت ظهر التلفزيون، وللتلفزيون حين ظهرت شبكات الانترنت، كل هذه الوسائل بقيت الحاجة اليها قائمة، كما ظلت تعمل جنباً الى جنب.
مهما كانت الذرائع والمبررات، تبقى ثمة أسئلة مهمة، منها: اين سيذهب «مئات» الصحفيين وعائلاتهم اذا أغلقت الصحف أبوابها، وماذا عن «المأساة» الإنسانية التي يعاني منها هؤلاء على صعيد معاشاتهم وظروفهم الصعبة بعد ان ظلوا صامدين لأعوام على حدود مهنتهم؟ ثم هل ستخسر المهنة فقط من غياب الصحف التي تمثل مدارس إعلامية ام ان بلدنا سيخسر ايضاً اذا غابت هذه «الاحبار» الشريفة وقرر الصحفيون اعتزال مهنتهم، ثم هل تعجز الحكومات التي تنفق الملايين على بعض المؤسسات المتعثرة ان تخصص جزءاً من هذه الأموال لمساعدة «صحفها» المملوكة في معظمها للدولة؟ ثم الا تستدعي الازمة (المحنة ان شئت) التي تمر بها الصحف الورقية التحرك بأي شكل لإنقاذها مالياً؟
بكلمة واحدة : محاولة «خنق» الصحافة الورقية بالسكوت على محنتها وعدم دعمها في هذه الازمة أسوة بغيرها سيكون أسوأ قرار يمكن ان نتخذه، ليس فقط لأن هذه الصحف كانت وما زالت لسان الدولة والناطق باسم ضميرها العام، وانما لأن لغيابها وحشة سيلمس الجميع آثارها، وسيدفع الجميع ضريبتها ايضاً.
الدستور