رمضان بلا مراسيم..!
يمكن ان نتعبد الى الله بالصيام دون ان نذهب الى المساجد لأداء الصلوات، يمكن – ايضاً- ان نفعل ذلك من غير ان نقضي ليلنا في المطاعم و»الكوفي شوب»، ودون ان نقيم الولائم الرمضانية للأقرباء والاعزاء، ودون ان نخرج الى الشوارع لممارسة السهرات الرمضانية.
فيما مضى كان رمضان يحتمل كل ذلك، واكثر، يحتمل خلافاتنا حول كيفية الصيام واثره، حول من يتقرب الى الله اكثر من هذه الأصناف التي تفهم الصيام كما تريد، الان نكتشف ان كل خلافاتنا ووجهات نظرنا حول الموضوع مجرد اجتهادات بشرية، نحن جميعاً نفهم الدين وأركانه ونوافله بناء على خبراتنا ورغباتنا وحاجتنا، وبالتالي لا يجوز لأحد ان يحتكر الصواب، او أن يصنف نفسه في «عليين» وغيره «اسفل السافلين».
هذا الدرس تعلمناه من شيخ لا نعرفه، داهمنا فجأة وألجأنا الى «جذع» شجرة التغيير التي كنا نحفرها بدعواتنا ودعائنا فلا يتساقط منها الا القليل من التمر والكثير من «الوهم»، فإذا بها الان تهتز دون إذن منا فيسقط منها أفكار جديدة، واحوال لم نكن نعهدها، واحكام لم نتصورها، وعوائد نقف إزاءها مندهشين وعيوننا مفتوحة على واقع لم نألفه.
ما لم تستطع «رمضانات» عديدة سجلناها في رصيد أعمارنا ان تفعله بنا، سيفعله هذا «الرمضان» الكريم الذي حشر «كورونا» أنفه في ساعات نهاره الطويلة وليله الساكن، فيا سبحان الله حتى «العبادة» تحتاج الى مطعوم يغذيها بالسراء او الضراء حتى تتحول في نفوسنا البشرية الى «طاقة» هائلة، تستفزنا لكي نتعرف على ذاتنا من جديد، ونتعرف على خالقنا من جديد، ونكتشف ما عجزنا عن اكتشافه في المواسم التي سخرها الله لنا من اجل ان نتغير» ونتجدد ونخرج من أنانيتنا ونغادر منصات «الجهل» التي حولت الانسان داخلنا الى ركام من القسوة وبرميل من الجنون.
لم يختلف رمضان هذا العام عن الأعوام السابقة، نحن الذين اختلفنا، ربما بدافع الخوف والقهر اللذين فرضهما علينا الوباء، ربما بدافع حاجتنا الفطرية «للتجربة» والمعرفة والتكييف، المهم ان هذا الاختلاف القسري يمنحنا الان فرصة ثمينة للصيام بطعم اخر، ليس فقط، بالامتناع عن الطعام والشراب، ولا «بالتعبد» في المنازل والبيوت، ولا «بالتباهي» في تقديم «الكورونا» وإقامة الموائد، وانما بالتقوى، وبالتقوى فقط، وتلك وصفة «عزيزة» لا يعرفها الا الصائمون حقاً.
أهلا برمضان في زمن «كورونا» فقد علمنا ان الصيام -وكذلك كل العبادات- ليست مجرد مراسيم وانما تعاليم ينفخ فيها الايمان من روحه فتتحول الى طاقة تفجر ينابيع الخير والسعادة والجمال في الانسان، وتحوّله من بشر يمشي على قدمين في ارض الله الواسعة، الى «طائر» يحلّق في الملكوت، ويفيض بالعطاء على الكون، كل الكون، بما لديه من رحمة ومحبة للعالمين.
الدستور