بعد الوباء.. لحظة الحقيقة..!
أبلت بعض الدول حسناً في مكافحة وباء فيروس كورونا، فتمكنت من احتواء التفشي وتقليل عدد الإصابات والوفيات وجنّبت مرافقها وكوادرها الطبية الإجهاد. ولا شك في أن إنقاذ الحياة هو الغاية الأخلاقية والعملية النهائية. وفي المقابل، فشلت دول أخرى في الاستجابة السريعة، وترددت في الإغلاق الصعب، فدفعت الثمن من سلامة مواطنيها وإرهاق خدماتها الصحية، واقتصاداتها بالتأكيد.
لكن لحظة الحقيقة بالنسبة لكل الحكومات، بغض النظر عن طريقتها في إدارة الوباء، تقترب الآن مع انحسار الوباء في كثير من المناطق. وقد جاءت حماية الأرواح بالحظر والإغلاقات بكلفة جسيمة على معظم قطاعات الاقتصاد والشرائح الاجتماعية. ولكن، مع تراجع الوباء سوف تتراجع التفاعلات العاطفية التي رافقته. ويغلب أن تخلي مشاعر الإعجاب ومظاهر «الحشد حول العلَم» والتسامح مع الإجراءات الحكومية القاسية والأخطاء عز الوباء مكانها لأشكال أكثر واقعية من الأحكام والتفاعلات.
كما هو متوقع، شرعت القطاعات في دفع الثمن مبكراً؛ القطاع الحكومي المعتمد على الإيرادات، والقطاع الخاص والعمالة غير الرسميّة. هناك المؤسسات التي تضررت من الإغلاق واستخدمت قوانين الدفاع لخفض رواتب موظفيها أو إيقافهم أو تسريحهم. وهناك الذين يكسبون رزقهم يوماً بيوم، والذين انقطع رزقهم لأشهر. وهناك أعمال أغلقت أبوابها إلى الأبد أو توشك أن تفعل، مما يضيف أعداداً إلى العاطلين عن العمل مسبقاً. وهناك العائدون المتوقعون من المغتربين في البلدان التي تضررت مؤسساتها واضطرت إلى نفس آليات التقليص والتسريح.
قد تُذاع الآن الكثير من الشعارات المتفائلة وعبارات التشجيع، والحديث عن حماية الفئات الأضعف. لكنّ ما يحدث دائماً في العالم الواقعي – وفي كل العالم تقريباً- هو «تجيير» الأزمات، مثل تجيير الشيك مرات حتى المستفيد الأخير. لكنّ «المستفيد الأخير» في هذه الحالة لا يقبض، وإنما يتحمل العبء النهائي عن كل الذين مرروا له الفاتورة، ودائماً ما يكون الأفقر والأضعف بالتحديد.
عندما تفرض الدولة ضرائب من أي نوع أو رسوم أو جمارك أو مدفوعات على التجار ومقدمي الخدمات الرئيسيين والمقتدرين، فإنهم لا يحمّلونها لأرباحهم في الغالب، وإنما يضيفونها بدلاً من ذلك على فاتورة الوسيط، الذي يضيفها بدوره على فاتورة المستهلك النهائي.
وصاحب المؤسسة المتضرر، سيحلّ أزمته بإعادة هيكلة عمله وتسريح عماله، أو تخفيض رواتبهم أو إخضاعهم لمختلف أنواع الضغوط التي تعرفها الإدارات لدفع العاملين إلى السكوت أو المغادرة. ولكن، عندما تكثر شريحة الأكثر ضعفاً مع ارتفاعات الأسعار والضرائب وارتفاع البطالة، سوف تنخفض القوة الشرائية للأفراد وتذهب شهيتهم للاستهلاك، فتزداد أزمة الأعمال، وتجبُن الاستثمارات ويطل خطر عدم الاستقرار برأسه. وهي وصفة العاصفة الكاملة.
سوف تكون إدارة وضع كهذا صعبة. وإذا كانت الخبرة قبل الوباء غير مشجعة من حيث ابتكار الحلول الذكية لصناعة اقتصاد لا يرتكز على جيب «المستفيد الأخير» المثقوب كملجأ آخر دائم، فإن الآفاق لن تكون واعدة. ومن الواضح أن المزيد من الناس ينضمون إلى الفئة التي تعاني، مع تدهور الطبقة الوسطى –الضامنة الأساسية للاستقرار. وبذلك ربما تتسع قاعدة الساخطين، خاصة مع آثار الوباء.
ثمة أمل شحيح في أن إدارة أزمة الوباء قد توفر خبرة للتعامل مع الأزمات. لكن الحلول بعد الوباء لن تتحمل الألم الذي تقبله الكثيرون كثمن ضروري لتجنب المرض أو الموت. وسوف يتضاءل عدد الذين يؤيدون التدابير القاسية والقوانين التي توسع سلطات الدولة بحيث تمس بسبل العيش المباشرة. ولن يكون تمديد العمل بهذه القوانين كوسيلة لمنع الاحتجاج المتوقع إذا زادت المعاناة، وسوف يقوّض سريعاً نوع الروح التعاونية التي ظهرت أثناء الوباء.
مسؤولية المواطنين ستكون مراعاة التوصيات الصحية. وأدوار رأس المال هي تعليق الرغبة في جني أقصى الربح لصالح استمرار الأعمال. وسيكون خفض أسعار السلع والخدمات لتشجيع الاستهلاك والسياحة حكيماً. وبطبيعة الحال، ستكون نجاة الأعمال التجارية وقدرة المواطنين على المساهمة في الاقتصاد شرطاً لحفظ المصادر التي تجني الدولة منها العوائد الضرورية لإدامة قطاعها وخدماتها.
أما تجيير التكلفة – كالعادة- نزولاً إلى المواطن ليدفع كل إضافات الفاتورة، فوصفة للاضطرابات الخفية والظاهرة. ويقع العبء على صانع القرار في ابتكار الحلول التي تتجنب ذلك، وبعده أصحاب رأس المال الذين ينبغي أن يساهموا في التخفيف عن الضعفاء، لمصلحة الجميع. لكن توسيع دائرة الساخطين لن يكون مضمون العواقب.
الغد