غسان كنفاني.. ثنائية المثقف والمقاتل..!
ثمانية وأربعون عاما مرت الأربعاء على استشهاد غسان كنفاني، وما يزال -وسيبقى- مرجعية موثوقة يستضاء بها في عتمة الطريق الفلسطيني الصعب. ولا عدد للأسئلة التي أجاب عنها في أعماله القصصية والنظرية، ومنها الأدوار التي ينبغي أن يضطلع بها الفلسطينيون إذا ما أريد انخراط الجميع، كما ينبغي، في المسير الجمعي نحو التحرر.
يقول أحد شخوص كنفاني القصصية: “على كل حال أنا أعرف ما الذي أضاع فلسطين… كلام الجرائد لا ينفع يا بني، فهم -أولئك الذي يكتبون في الجرائد- يجلسون في مقاعد مريحة وفي غرف واسعة فيها صور وفيها مدفأة، ثم يكتبون عن فلسطين، وعن حرب فلسطين، وهم لم يسمعوا طلقة واحدة في حياتهم كلها، ولو سمعوا، إذن، لهربوا إلى حيث لا أدري”.
المقتطف من القصة القصيرة “ورقة من الطيرة”، في مجموعة “أرض البرتقال الحزين”. والراوي رجل بسيط كان مقاتلاً في فلسطين وأصبح الآن منفيا فقيرا يبيع العجوة ويضطهده رجال الشرطة. وفي قراءته لأسباب ضياع فلسطين، يَعرضُ المقاتل القديم موقفا من المثقفين، الذين يكتبون عما لم يختبروه ولم يروه.
يلامس هذا الموقف العلاقة التكاملية قطعا –وغير المتحررة من الجدل غالبا- بين الذي يكتب وينظِّر ويقود، والذي يحمل البندقية ويشتبك مع العدو مباشرة في الميدان. وأتصوّر أن غسان نفسه ربما واجه السؤال الذي يداهم كل من ينخرط في قضية تعرض خيار الاشتباك الميداني مع خيار التنظير الثقافي والأيديولوجي. كان غسان نفسه صحفيا وكاتبا، وعضوا في تنظيم له جناح عسكري.
إذا كان يمكن الأخذ برأي العدوّ في تحديد أهمية الدورين، فقد أجاب بطريقة مفرطة في الإيلام: استهدف غسان بالاغتيال، في تأكيد دموي على أنه مشتبك وفي الميدان، حتى من المكتب و”بجوار المدفأة”. كان ما يفعله غسان، الذي سمع صوت الكثير من الرصاص في بيروت ولم يهرب، خطيرا جدا على العدو ومشروعه. كان متعلقا بالسردية الفلسطينية لجهة التوثيق، وكان متعلقا برسم خريطة طريق نضالية واعدة، وبالتأهيل المعرفي والعقائدي الوطني لكل الفلسطينيين بلا استثناء.
بطبيعة الحال، تتميز مسألة أدوار المثقف في الحالة الفلسطينية –وحيثما يكون النقيض هو سلطة احتلال- عن أدواره في السّلم النسبي. والفارق هو ذلك التصنيف الذي أوضحه المقاتل القديم في القصة للذين يكتبون في الجرائد، والذي أتاحه وجود الفئة الأخرى التي ينتمي إليها هو، والتي تتطلب نوعا مختلفا من البسالة والتضحية. وهناك دائما عند الذي يكتب في الجرائد، في هذه الحالة، شبهة صاحب “البُرج العاجي” العالي الآمن، وحيث تبدو الأشياء في الأسفل بعيدة، مصغّرة، وغير واضحة.
في حالة غسان، لا يمكن أن تكون الأشياء أكثر وضوحا وقُربا. وسوف يتضح هذا التماهي الكامل مع الميدان في كل شيء كتبه. كان منحازاً بلا لُبس إلى المقاتل المنخرط في المعركة، سواء كان بسيطا يُفصح أحيانا عن فلسفة عميقة بمفرداته مسترشدا بالتجربة، أو مقاتلا مثقفا يسترشد بنظرية معقدة. بل إنه ينظر إلى المقاتل نظرة إجلال وتقديس ويرى أنه يمثل الخلاصة النقية والحتمية التي لا بد أن ينتهي إليها المطاف.
في “الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948-1968”، يكتب غسان: “ليست المقاومة المسلحة قشرة، هي ثمرة لزرعة ضاربة جذورها عميقة في الأرض، وإذا كان التحرير ينبع من فوهة البندقية، فإن البندقية ذاتها تنبع من إرادة التحرير، وإرادة التحرير ليست سوى النتاج الطبيعي والمنطقي والحتمي للمقاومة بمعناها الواسع: المقاومة على صعيد الرفض، وعلى صعيد التمسك الصلب بالجذور والمواقف.
“ومثل هذا النوع من المقاومة يتخذ شكله الرائد في العمل السياسي والعمل الثقافي، ويشكل هذان العملان المترافقان اللذان يكمل واحدهما الآخر الأرض الخصبة التي تستولد المقاومة المسلحة وتحضنها وتضمن استمرار مسيرتها وتحيطها بالضمانات.
“ومن هنا، فإن الشكلَ الثقافي في المقاومةِ يطرح أهمية قصوى ليست أبداً أقل قيمة من المقاومة المسلحة ذاتها، وبالتالي فإن رصدها واستقصاءها وكشف أعماقها تظل ضرورة لا غنى عنها لفهم الأرض التي ترتكز عليها بنادقُ الكفاحِ المسلح”.
الثقافة والمقاومة المسلحة إذن هما المكونان الضروريان المتكاملان لأي مشروع ثوري تحرري يأمل النجاح. ومن الكاشف أن أكثر من نصف الفلسطينيين في الضفة الغربية يقولون الآن، بعد فشل أوسلو، أنهم سيؤيدون العودة إلى الكفاح المسلح إذا ضمت إسرائيل أراض فلسطينية –في عودة حتمية إلى المرجعية التي مثلها غسان ودفع حياته ثمنا لها، والتي يعني تجاهلها اغتيال القضية بأكملها.