ما بعد خطاب ماكرون: فرنسا إلى أين؟!!
يعد خطابه في حي "ليه موروه" في باريس الجمعة الفائت الانطلاقة الفعلية لحملته الانتخابية التي جعل شعارها محاربة الانفصالية او الانعزالية الاسلامية في فرنسا -بحسب وصفه- معلنًا خطة جديدة تستهدف الجالية المسلمة، او لنقل الأقلية المسلمة في فرنسا التي تقدر بـ 13% من سكان البلاد.
فبعد خسارته امام اليساريين والخضر في الانتخابات البلدية لم يعد امامه من خيار إلا محاولة جذب اهتمام اليمين الفرنسي الذي يشاركه العداء لليسار والخضر؛ فماكرون يريد إطلاق العنان لعالم البنوك والتمويل الذي يمثله، والخضر واليسار عائق ولا يعد الحليف الأمثل، بل الخصم الأيدولوجي لنهجه وتوجهاته.
والأهم من ذلك ان شعبية ماكرون كرئيس في اوساط الفرنسيين في الريف تشهد تراجعًا؛ أوساط محافظة تنتمي الى الطائفة الكاثوليكية تمثل الأغلبية الفعلية للبلاد، في مقابل الطائفة العلمانية الحاكمة بتلاوينها الأيدولوجية المتنوعة، والطائفة البروتستانية التي تعد أقلية، تتبعها الأقلية المسلمة، او ما يمكن تسميته بالطائفة الاسلامية التي باتت كتلة مهمة في فرنسا.
الصراع بين الريف الفرنسي والحضر قديم يعود الى بدايات الثورة الفرنسية؛ إذ بقي الريف مواليًا للكنيسة الكاثوليكية وللملكية فخاض ثورة مضادة، وحربًا أهلية انطلاقًا من الريف الفرنسي ضد "اللائكية" التي حولت كنيسة نوتردام في باريس الى ماخور حينها، واستمرت حتى ظهور نابليون الذي أنشأ إمبراطورية على جماجم اللائكيين، إمبراطورية لم تصمد طويلًا!
وما يواجهه ماكرون انعكاس لصورة فرنسا القديم، وليس خطرًا اسلاميًّا محدقًا؛ فأغلب الفاعلين في السترات الصفراء هم من الريف الفرنسي، ما أشعل حرب خفية أحرقت فيها المتاحف، وهوجم قوس النصر في باريس، ليحترق في المقابل عدد من الكنائس هنا وهناك في موجة عنف وحرائق حاولت السلطات الفرنسية التستر على دوافعها الحقيقية وأنكرتها! إذ هي حرب شعواء تعود الى القرن الثامن عشر والثورة الفرنسية ذاتها التي قُتل فيها 30 ألف قسيس من الكاثوليك في أيامها الاولى فقط!
ليست هذه الرواية التاريخية سوى انعكاس للمناهج المستخدمة لدراسة العالم الاسلامي، والدوائر الاستشراقية؛ فتقسيم العالم الاسلامي الى طوائف منهج علمي رصين في الغرب يمكن أن يفسر ما يحدث الآن في فرنسا.
استخدام "المنهجية" في دراسة ما يحدث في فرنسا يوضح المشهد، إنه صراع قديم بين الطوائف الأكبر: العلمانية الحاكمة المحتكرة للسلطة والمال من جهة، والكاثوليكية المهمشة التي هادنتها مقابل عدم المساس بها في الريف من جهة أخرى، والثالثة البروتستانت التي ترى في حكم الطائفة العلمانية ملاذًا من تغول الطائفة الاكبر! لنجد المسلمن في فرنسا ضحية معادلة قديمة، وبدون حليف او شريك يُستخدمون لحَرْفِ أنظار الطائفة الأكبر في البلاد عن مشاكل النخبة العلمانية الحاكمة، وإفلاسها السياسي والاقتصادي.
المسلمون في فرنسا هم ضحية هذ الإفلاس، وتفكك الجمهورية الفرنسية إلى عناصره الأساسية بُعيد فوز ماكرون، وصراعه مع السترات الصفراء، ليضرب على وتر الطائفة الإسلامية؛ أملًا في توحيد القاعدة الاجتماعية لليمين والكاثوليك خلفه، وخلف ما اسماه "مبادئ الجمهورية" التي يشكك فيها حلفاؤه في اليمين العلماني والكاثوليكي أصلًا!!
من الذي يعاني من الأزمة: العالم الإسلامي أم فرنسا!!! أزمة لم تحسم منذ 231 عامًا خلت؛ أي: منذ الثورة الفرنسية، ومقتل لويس السادس عشر؛ إذ خاضت فرنسا العديد من الحروب الأهلية عقب عام 1789، ثم حروب نابليون، وعودة الملكية عام 1815، ثم الحرب الأهلية عام 1848، وحرب اللازاس واللوريين عام 1870، ثم سقوط نابليون الثالث ومجزرة باريس، ثم أتت الحرب العالمية الأولى التي هُزِمت فيها أمام ألمانيا، وبعدها الحرب العالمية الثانية كذلك، ثم هزيمتها في فيتنام والجزائر والسويس، ولم يبقَ للفرنسيين شيء يُذكر إلا ديغول الذي أُطيح به في العام 1969 على يد الثورة الجنسية، او ما سمي حينها بـ"ثورة الشباب".
فرنسا قلقة ومتوترة، ولم تحسم أمرها أبدًا لدرجة أن الرئيس ميتران في ذكرى مرور 200 عام على الثورة الفرنسية دعا الفرنسيين إلى التوحد، وحل خلافاتهم وتجاوزها. أزمة عميقة عُبِّر عنها في العام 1994 بتظاهرة عارمة للكاثوليك شارك فيها 5 ملايين فرنسي؛ لتأكيد هُوية البلاد الكاثوليكية في مواجهة العلمانية اللائكية، وصَوَّت الفرنسيون في العام 2006 ضد دستور الاتحاد الأوروبي العلماني لصالح الهوية المسيحية لأوروبا وفرنسا، فمن الذي يعاني من أزمة هوية؟!!
لماذا الهجوم على المسلمين، ومحاولة افتعال مواجهة معهم، والإصرار على وضعهم في زاوية ضيقة كما تفعل الصين بالإيغور! إنه البحث عن عدو يوحد الفرنسيين! علمًا بأن الحروب في الأعوام: 1789 و1815 و1830 و1848، ومجازر عام 1870 في باريس التي اكْتُشِفت بعض مقابرها العام الماضي في ضواحي باريس وشوارعها! مجازرُ لم يكن للمسلمين علاقة بها مطلقًا!
إنها محاولة للهروب من أزمة قديمة؛ ففرنسا تعيش أزمة انعدام الثقة بالذات منذ لحظة ولادة الجمهورية، وهي الآن تمر في واحدة من ذروات هذه الازمة التي يُراد للمسلمين في فرنسا أن يكونوا ضحيتها!
فرنسا بحاجة إلى عَقْد اجتماعي ينهي احتكار الطائفة العلمانية للسلطة، ويؤسس لدولة تقبل التعددية الفكرية والدينية؛ فتحترم كافة الطوائف ضمن شراكة تُعلي من مكانة المُوَاطنة واحترام الآخر، وليس ضمن توازنات قائمة على منطق نشر الخوف والرعب والفوبيا التي تستهدف الآن المسلمين!
السبيل