عبدالرحيم الشحاحدة وموهبة اللغة
في أحد أحياء مدينة الطفيلة العريقة وفي ذاكرتها التي لا تمحى أسماء واماكن ورجالات واحداث صنعوا هويتها ووجدانها وبنوا إرثها وتاريخها، قصص وروايات منسية، بعض هذه القصص تحكي بطولات واخرى تتحدث عن بوح وقليل منها يأتي في قوالب انسانية فريدة. بالأمس تناهى الى مسامعي نبأ رحيل السيد عبدالرحيم الشحاحدة الذي عاش لما يقارب الثمانية عقود وهو يعمل بصمت في مهمة طالما احتاجت لها المدينة في اكثر الاوقات إلحاحا وبلا توجيه او تكليف.
في المدينة التي لا يدخلها أحدنا الا قاصدا كان التعليم وسيلة الأهل في تحدي الفقر والجوع وفي التعبير عن رغبة الجميع في تغيير الواقع. كانت المدارس منتشرة لكنها فقيرة في مواردها وتجهيزاتها وكفاءاتها حيث تمضي بعض المدارس سنوات دون ان تحظى بمدرس مؤهل للعلوم او الرياضيات او اللغة الانجليزية.
في قريتي التي اشتملت على مدرستين للذكور والاناث لم يعين في المدرسة استاذ جامعي الا في خريف العام 1969 عندما عاد احد اوائل المتعلمين من ابناء القرية وآثر ان يخدم فيها. المدرسة الثانوية الوحيدة للذكور كانت في مركز اللواء حيث كان مديرها المهاب فؤاد العوران يحرص على فرض النظام وتهيئة البيئة وصهر الطلبة في بوتقة تلغي الفوارق بين الطلبة الذين جاؤوا من مختلف القرى والبلدات التي تنتشر على مساحة المكان الممتد من الحسا وجرف الدراويش شرقا الى مليح ورحاب شمالا وصولا الى بصيرا والقادسية جنوبا ومشارف الأغوار غربا .
في المدرسة الثانوية كانت الاجواء افضل والاساتذة متخصصون في حقولهم يحمل معظمهم درجات جامعية لكن الكثير من الطلبة يناضلون ويحاولون تعويض ما فاتهم بسبب النقص الحاد في المعارف والمهارات الناجمة عن التعيينات التي تتم لمعلمين لم يحملوا اكثر من الثانوية العامة وبلا رغبة في التعليم، فقد رأى بعضهم ان المهنة تمنحهم الرخصة لحمل العصا والتجوال بين الصفوف وممارسة رغباتهم في تصيد المخالفات الانضباطية وإلحاق العقاب بمرتكبيها. في تلك الايام حرم الكثير من الطلبة من حق التعليم النوعي بعدما أسندت مهام التدريس لأشخاص لم يُعن بتأهيلهم.
بعيدا عن الجامعات ودرجاتها العلمية في اللسانيات واللغة كان عبدالرحيم الشحاحدة في العقد الثالث من عمره يوم كنا طلابا على مقاعد المرحلة الثانوية في مدينة الطفيلة. كان الشخص الوحيد الذي يقدم خدمات تعليمية مساندة لمن يحتاج اليها، بالرغم من انه لم يتحصل على درجة علمية في اللغات، ويعلم الجميع أنه واجه صعوبات متكررة في اجتياز الثانوية العامة إلا أن الناس ادركوا وبغرائزهم وحكمتهم حجم وعمق الموهبة التي يمتلكها “الاستاذ عبدالرحيم” ووثقوا به كمخلّص للطلبة من محنهم الناجمة عن ضعفهم في اللغة الانجليزية، ومخاوفهم من احتمالية الاخفاق في الامتحان بسبب هذا الضعف.
في بلدتنا التي يعرف فيها الناس بعضهم البعض ويدرك الجميع المواهب الظاهرة والدفينة ويميزون بين الغث والسمين كان عبدالرحيم نجما لا يختلف اثنان على نجوميته. بالرغم من انه تقدم للثانوية العامة مرارا ولم يحالفه الحظ بسبب مبحث التاريخ الذي لم يتقبل صاحبنا ايا من رواياته الا انه كان استاذا بارعا للغة الانجليزية يكسب طلبته الثقة وينقل إليهم المهارات ويحسن الاجابة على ما يدور في رؤوسهم.
الموهبة والشغف اللذان تملكا الاستاذ الشحاحدة جعلا منه احد اهم معالم المدينة الوادعة وملاذا لطلابها الذين يجاهدون لتجاوز مخاوف الامتحان وتميمة ساعدت بعض مدارسنا على التخلص من وصمة “الناجحون لا أحد”.
نستذكر اليوم ونحن نودع أحد صناع الاجيال وبناة المعرفة اهمية العطاء بعيدا عن الضجيج والمنة فمثل هؤلاء الرجال والنساء هم البناة الحقيقيون الذين لا يلقون بالا لأضواء الكاميرات ولا يزعمون أن الدنيا قد تقوم ولا تقعد اذا ما غابوا عن الفضاء العام .. لروحك الرحمة ايها الأستاذ الرائد ولنا من سيرتك المآثر والعبر.
الغد