قصة الفساد في القرآن
جاء القرآن بمعالجة شاملة لقضايا الناس ومشكلاتهم دينياً وأخلاقياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً.
ولم يغفل القرآن بيان ظاهرة الفساد المالي والسياسي، وسرد قصص الفاسدين وصفاتهم وبيان عاقبة أمرهم.
لقد ضرب الله لنا مثلا في شخصية فرعون، التي جمعت فسادا ماليا ودينيا وسياسيا، وبيـّـن القرآن بإسهاب كيف جسـّـد فرعون صورة استضعاف شعبه والتضييق على قوتهم بالرغم من إثرائه غير المشروع!
لقد بنى فرعون القصور والأهرامات، وعاش هو وحاشيته وبطانته في نعيم باذخ على حساب شعبه الكادح الضعيف فاستحق وصف الله له بقوله: (وإنّ فِرعَونَ لَعالٍ في الأرضِ وإنّه لَمِنَ المُسرفين).
إن إسراف فرعون وتبذيره بالرغم من فقر الشعب ومعاناته، وبالرغم من الإذلال والاستضعاف للشعب لهو علامة فارقة يعرف بها الفاسدون:
قال تعالى: (إنّ فِرعَونَ عَلا في الأرض وجَعَلَ أهلَها شِيَعاً يَستَضعِفُ طائفةً منهم يُذَبِّحُ أبناءَهُم ويَستَحيي نِساءَهُم إنّهُ كانَ من المُفسدين) (القصص/ 4).
وتأمل معي قوله تعالى (وجَعَلَ أهلَها شِيَعاً ) فقد حرص فرعون على بث الفرقة والنعرات بين أبناء الشعب الواحد، من خلال التخوين والتفرقة العنصرية والطائفية وغيرها ، حتى تنشغل الشعوب ببعضها ، وتسلم أموال الشعب للناهبين.
وإذا حكم الله على الفاسدين بأنهم إخوان الشياطين كما في قوله تعالى: ( إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا ) فلا تستغرب من مؤامراتهم الشيطانية على دعاة الإصلاح، واتهامهم بأنهم مفسدون حاقدون انقلابيون، يريدون مشاركة المسؤولين أموالهم التي اكتسبوها بطرق قانونية مشروعة، وبجد واجتهاد حسب زعمهم، وجعلوا ثروات البلاد ملكا لهم يتصرفون بها كيف شاؤوا بيعا وإهداء مع أنها أموال الشعوب.
تأمل معي قوله تعالى : (ونادى فِرعَونُ في قَومِهِ قالَ يا قومِ أليسَ لي مُلكُ مِصرَ وهذه الأنهارُ تجري من تَحتي أفلا تُبصِرون * أمْ أنا خَيرٌ من هذا الذي هوَ مَهِينٌ ولا يَكادُ يُبِين )
فجعل استبداده بالملك والثروة مبررا لطاعته ، ووصف كل صوت يطالب بالحقوق –في نظر فرعون- بأنه صوت مهين، ولابد أن يخرس ولا يبين.
لم يغفل القرآن أيضا عن كشف حال البطانة المنافقة الرخيصة التي تطبل للفساد وتنافق للفاسدين، فبين أنهم أذلاء حقراء حتى في نظر سيدهم فرعون الذي ينافقون له ويدافعون عنه، قال تعالى: ( فاستَخَفَّ قَومَهُ فأطاعوهُ إنّهم كانوا قَوماً فاسقين).
ومن هؤلاء، أناس جهلة بسطاء انخدعوا بزينة السلطان وبهارجه وثرائه وحشمه ، فظنوا أن الحق دائما مع فرعون وسياساته، فهو الذي يفهم ويدرك بحكمته وبماله مالا يستطيع غيره إدراكه.
(قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ)!!
كيف لا وقد استخدم فرعون أساليب التضليل الإعلامي وتخوين المخالفين، وشراء الذمم الرخيصة، ليصف دعاة الإصلاح بالخيانة والعمالة والإجرام، كما وصف موسى عليه السلام بأنه مجرم ساحر كاذب وأنه من المفسدين!!
لقد بات منصب فرعون وثراؤه وسلطته أداة استبداد وقمع لكل مطالب بحق مشروع، بدل أن تكون السلطة والثروة سببا للتقدّم والازدهار وللتنمية والإعمار، (وقال مُوسى ربّنا إنّك آتَيتَ فِرعَونَ ومَلأهُ زينَةً وأموالاً في الحياة الدنيا ربّنا لِيُضِلّوا عن سَبيلكَ ربّنا اطمِس على أموالهم واشدُد على قُلُوبهم فلا يؤمنوا حتى يَرَوا العذاب الأليم) .
ولهذا وقع على فرعون وأعوانه ماذكره الله وحذر منه قائلا سبحانه (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَاد ، الَذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) سورة الفجر
لقد أدى الفساد والانحراف إلى ذهاب البركة ونقص الثروات، ونزول العقوبة والعذاب، لأنّ الإنسان بكرامته وعزته وأخذه لحقوقه هو الذي يُعمِّر البلاد ويُنمِّي الاقتصاد، فإن فقد عزته وكرامته وسلبت حقوقه وامتيازاته، فإنّه لا يمكن له أن يصنع حضارة أو يشارك في نهضة أو تنمية، لأنّه فاقد للروح الخلاّقة المُبدعة وقد ماتت فيه الحوافز الدافعة والمُحرِّكة.
لا دوام للحكم إلا بالعدل، ولا رخاء إلا بالإنصاف، والعدل والإنفاق والتوسعة على الناس تزيد البركة والرزق، وتزرع الولاء الصادق.
وحيثما يكون الظلم والإسراف والاستضعاف والفساد، فهناك يكون الشقاء والابتلاء والمحن.
وهكذا كان حال فرعون وقومه الذين حكى الله حالهم دستورا ومنهاجا لنا، تحذيرا لأهل العقول والشرفاء الصادقين وللأمراء والكبراء والوزراء والمسؤولين ، من سيرة فرعون ومسيرته وعاقبة من سار على طريقته.
قال تعالى: (فلمّا آسَفُونا انتَقَمنا مِنهُم فأغرَقناهُم أجمعين * فجَعَلناهُم سَلَفاً ومَثَلاً للآخرين) .